في عام 2023، قام مكتب الإسكندرية للحماية القانونية بإقامة الدعوى رقم 18685 لسنة 77 قضائية، طالبًا في ختام صحيفتها بإلغاء القرار السلبي بالامتناع عن إصدار قانون للعدالة الانتقالية، مُتذرعًا بالمادة 241 من الدستور التي تلزم مجلس النواب بأن “يلتزم مجلس النواب في أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة والمحاسبة واقتراح أطر المصالحة الوطنية وتعويض الضحايا وذلك وفقًا للمعايير الدولية”. وتداولت الدعوى في الجلسات، وبجلسة 26 مارس 2024 حكمت المحكمة بعدم اختصاص المحكمة نوعيًا بنظر الدعوى لكون موضوعها من قبيل الأعمال البرلمانية.
كانت دعوى مكتب الإسكندرية للحماية القانونية هي المحاولة القانونية الأولى – على الإطلاق – لمواجهة تجاهل السلطة التشريعية للمادة 241 من الدستور التي ألزمت مجلس النواب بإصدار قانون للعدالة الانتقالية في أول دور انعقاد له. وبالرغم من أن هذه المحاولة لم تُسفر عن شيء مادي يُذكر على أرض الواقع، إلا أنها كانت بمثابة إلقاء حجر في مياه راكدة، فكانت تذكيرًا لمؤسسات الدولة بأن هناك قانونًا يتعين على جهازها التشريعي إصداره، سيما أنه يتعلق بسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والمصالحة الوطنية في ظل حالة الاستقطاب المهيمنة على المجتمع المصري خلال السنوات الماضية.
وإن كانت دعوى مكتب الإسكندرية للحماية القانونية هي المحاولة القانونية الأولى التي تهدف إلى إرساء دعائم العدالة الانتقالية، فقد سبق أن صدر قرار من رئيس مجلس الوزراء رقم 82 لسنة 2014 بتنظيم وزارة للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، موضحًا في المادة الأولى منه أهداف هذه الوزارة، والتي تتمثل في:
وبالرغم من صدور قرار مجلس الوزراء بالفعل ونشره في الجريدة الرسمية في 21 يناير 2014، إلا أن الدولة المصرية لم تتخذ أي خطوات جادة نحو تطبيق ما جاء في قرار مجلس الوزراء حتى الآن، على الرغم من الضرورة الملحة لإصدار هذا القانون. فالمشرع الدستوري عندما ألزم مجلس النواب بإصدار قانون للعدالة الانتقالية في أول دور انعقاد له، كان يعلم حاجة المجتمع المصري المُلحة إلى إصدار هذا القانون، وكان يأمل في تحقيق المصالحة الوطنية، لا سيما أن المجتمع المصري عاش لعقود طويلة بين براثن أنظمة ديكتاتورية خلفت آلاف الضحايا وأحدثت تصدعات في بنية المجتمع السياسية والقانونية.
سبق أن نشر مكتب الإسكندرية للحماية القانونية ورقة بحثية بعنوان “حلم العدالة الانتقالية” تناول فيها تعريف العدالة الانتقالية وأهدافها وأهميتها وآلياتها، فضلاً عن تطبيقاتها في الدول التي عاشت لفترات طويلة تحت وطأة الأنظمة الشمولية. ونُحيل القارئ الكريم إليها للاطلاع.
إلا أننا نعرفها بإيجاز على النحو التالي:
العدالة الانتقالية: هي حزمة من التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال عصور استبدادية بائدة. وتتضمن هذه التدابير ما يلي:
تهدف العدالة الانتقالية إلى:
العدالة الانتقالية: ليست نوعًا خاصًا من العدالة، وإنما هي مقاربة لتحقيق العدالة في فترات الانتقال من النزاع أو قمع الدولة. أي تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التي تمر بها دولة من الدول، من خلال محاولة تحقيق المحاسبة والتعويض للضحايا. وتقدم العدالة اعترافًا بحقوق الضحايا وتشجع الثقة المدنية، وتقوي سيادة القانون والديمقراطية.
العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية في كونها: تُعنى بالفترات الانتقالية مثل:
وتواكب كل هذه المراحل في العادة بعض الإجراءات الإصلاحية الضرورية وسعي لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة. فهي تدير المرحلة الانتقالية بقراءة مظالم الماضي وترسيخ قيم المصالحة والوحدة الوطنية للعيش والتعايش السلمي. وتُبلور الإيمان بالتغيير ومواكبة خطاب حقوق الإنسان، ومواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي.
حين نستقرأ مدلول العدالة الانتقالية، سيتبين لنا أهمية إصدار قانون لها. خاصةً أن العدالة الانتقالية كانت الترياق في مرحلة التحول الديمقراطي لكثير من المجتمعات التي شهدت تاريخًا حافلًا بانتهاكات حقوق الإنسان، مثل: الأرجنتين، وتشيلي، وجنوب إفريقيا، وبيرو، والسلفادور، وغواتيمالا، والهندوراس، والبرازيل، وبوليفيا، وباراغواي، والإكوادور، وبنما، وكوستاريكا، وكولومبيا، وروندا، وسيراليون، وأوغندا، وغيرها من الدول.
وإزاء دعوة السيد رئيس الجمهورية للحوار الوطني، فإن مكتب الإسكندرية للحماية القانونية يجدد دعوته إلى الجهات المعنية للاستجابة لنداء المُشرع الدستوري وإصدار قانون للعدالة الانتقالية. سيما أن المجتمع المصري في أمس الحاجة إلى تدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون.