صدق من قال أن من رحم المعاناة يولد الأمل، ومن قلب المأساة يولد الإبداع.
في 24 مارس 1976م تم الإطاحة برئيسة الارجنتين السيدة/ إيزابيلا بيرون على إثر إنقلاب عسكري بقيادة الجنرال خورخي رافائيل فيديلا، تحت شعار حماية الأرجنتين من خطر الشيوعية، وتم تشكيل مجلس عسكري مكون من تسعة جنرالات قام بفرض الأحكام العرفية، وإلغاء الدستور، وحظر التظاهر والتجمهر وفرض الرقابة على الصحافة والإعلام، فضلاً عن تدجين منظمات المجتمع المدني.
بسط الجنرالات سيطرتهم على السلطة لمدة ست سنوات، فطوال هذه السنوات تفنن الجنرالات في قمع وارتكاب أبشع الجرائم ضد كل من ينتمي إلى التيار اليساري سواء من قريب أو من بعيد، مبررين ذلك بالحفاظ على أمن الأرجنتين، فأسفرت هذه الممارسات القمعية خلال هذه السنوات الست عن ثلاثين ألف حالة اختفاء من أبناء الشعب الأرجنتيني، لم يخول الجنرالات لذويهم حق معرفة مصير أبنائهم الذين في أغلب الأحوال تم قتلهم وحرق جثثهم أو رميها في البحر، وذلك لإخفاء أي دليل يثبت الجرائم التي ارتكبت في حقهم.
في عام 1983م انتهى حكم الجنرالات وشهدت الأرجنتين أول انتخابات ديمقراطية، جاءت براؤول ألفوسين إلى سدة الحكم، لتبدأ مرحلة التحول الديمقراطي التي برز فيها قضية شائكة للغاية، وهي قضية الأشخاص المختفين قسرياً، ليشكل الرئيس الأرجنتيني لجنة لتقصي الحقيقة، وكان ميلاد هذه اللجنة هو ميلاد العدالة الانتقالية في الأرجنتين.
حذت كثير من الدول التي وقعت في براثن الديكتاتوريات لآجال زمنية حذو الأرجنتين فور نجاتها من وبال الديكتاتوريات، واتخذت من العدالة الأنتقالية وسيلة لتحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية وتذويب رواسب الماضي، فانتهجت تشيلي نهج الارجنتين، واستعانت بالعدالة الانتقالية، إلا أن تجربة تشيلي كانت أكثر نضجاً من تجربة الأرجنتين، لاستفادتها من تجربة العدالة الانتقالية الأرجنتينية، وانتهجت جنوب أفريقيا أيضاً ذات النهج بعدما تخلصت من نظام الفصل العنصري الأبارتايد، وكذلك بيرو والسلفادور وغواتيمالا والهندوراس والبرازيل وبوليفيا وباراغواي والاكوادور وبنما وكوستاريكا وكولومبيا وروندا وسيراليون وأوغندا وبولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وغيرها من الدول التي نجحت في التملص من براثن الديكتاتورية والاستبداد لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل التحول الديمقراطي، الذي لا يمكن أن يتم بدون المصالحات الوطنية، وحشد كل آليات العدالة الانتقالية لتثبيت السلم المدني وخلق مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية لتحقيق عدالة اجتماعية واقتصادية والحد من جرائم الماضي، فما هي إذاً العدالة الانتقالية؟
هي حزمة من التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال عصور استبدادية بائدة وتتضمن هذه التدابير الملاحقات القضائية، وإنشاء لجان تقصي الحقائق، وبرامج إعادة التأهيل وجبر الضرر والتعويض المادي والمصارحة وأشكال متنوعة من إصلاح المؤسسات، أي أن العدالة الانتقالية تهدف إلى تعزيز إمكانيات تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية.
فالعدالة الإنتقالية ليست نوعاً خاصاً من العدالة، وإنّما هي مقاربة لتحقيق العدالة في فترات الانتقال من النزاع أو قمع الدولة أي تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التي تمر بها دولة من الدول، من خلال محاولة تحقيق المحاسبة والتعويض للضحايا، وتقدّم العدالة اعترافاً بحقوق الضحايا وتشجّع الثقة المدنية، وتقوّي سيادة القانون والديموقراطية.
والعدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حكم سياسي تسلطي إلى الحكم الديمقراطي، أو التحرر من احتلال أجنبي بإستعادة أو تأسيس حكم محلي، وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الإجراءات الإصلاحية الضرورية وسعي لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة، فهي تدير المرحلة الانتقالية بقراءة مظالم الماضي وترسيخ قيم المصالحة والوحدة الوطنية للعيش والتعايش السلمي وتبلور الإيمان بالتغيير ومواكبة خطاب حقوق الإنسان، ومواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي.
من الممكن أن نقول أن العدالة الإنتقالية مرت بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: جاءت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، وتمثلت بشكل أساسي في محاكمات نورنبيرغ، وجاءت العدالة الانتقالية خلال هذه المرحلة في صورة فكرة التجريم والمحاكمات الدولية المترتبة عليها، وكانت اتفاقية الإبادة الجماعية التي تم إقرارها أهم ميكانيزمات عملها، ولم يعد من الممكن بعدها تبرير انتهاك حقوق الإنسان بأسم الاستجابة للأوامر.
المرحلة الثانية: جاءت هذه المرحلة أثناء الحرب الباردة، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي والتغيرات السياسية المختلفة في دول أوروبا الشرقية وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا، وفي هذه المرحلة تم تطبيق مفهوم مُسيس وذا طابع محلي أو وطني من العدالة الاجتماعية ارتبط بالهياكل الرسمية للدولة، وهنا تجاوزت فكرة المحاكمات وتضمنت آليات أخرى مثل لجان الحقيقة، والتعويضات، أي انه خلال هذه المرحلة صارت العدالة الانتقالية بمثابة حوار وطني بين الجناة والضحايا، وخلال هذه المرحلة برزت تجربة لجان الحقيقة في الأرجنتين وعدد من دول أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا.
وقد تطور المفهوم خلال الفترات الانتقالية التالية لحكم الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية، وجنوب أفريقيا بعد نظام الفصل العنصري، وبعض الدول الأفريقية ودول شرق ووسط أوروبا في أعقاب الحرب الباردة. كان هناك توافق دولي على الحاجة لإجراءات العدالة الانتقالية للتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان الماضية.
المرحلة الثالثة: جاءت المرحلة الثالثة بالتزامن مع الموجة الثالثة للديمقراطية في أواخرالثمانينات وأوائل التسعينيات زخماً وحافزاً جديداً للعدالة الانتقالية، انتقل به من كونه مفهوماً رابطاً بين المرحلة الانتقالية للتحول الديمقراطي والعدالة، حيث كان هذا المفهوم يتضمن منظوراً أوسع يقوم على إعادة تقييم شامل للوصول بمجتمع ما في المرحلة الانتقالية إلى موقع آخر تعد الديمقراطية أحد أهدافه الأساسية.
ثم كانت البداية الحقيقية لما يمكن أن يسمي تطبيق للعدالة الانتقالية، في محاكمات حقوق الإنسان في اليونان في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وبعدها في المرحلة التالية للحكم العسكري في الأرجنتين وتشيلي من خلال لجنتي تقصي الحقائق في الأرجنتين عام 1983م وتشيلي عام 1990م ومن بعد ذلك في العديد من دول القارة اللاتينية.
ويعد إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة في عام 1993م بداية لمشهد سياسي جديد شمل المرحلة الثالثة للعدالة الانتقالية، إذ أدى تكرر النزاعات إلى تكرر حالات تطبيق العدالة الانتقالية، كما ارتفعت الأصوات المنادية بالحد من الأخذ بمبدأ الحصانة ليصبح الاستثناء وليس القاعدة، وفي هذا السياق تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في عام 1994م، ثم في عام 1998م تم إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وقد أثرت هذه التطورات في الكثير من اتفاقيات السلام التي عقدت بعد ذلك، والتي أشارت إلى المحاكمات الدولية باعتبارها جزءاً من عملية التسوية السلمية؛ من ذلك اتفاقية أروشا المتعلقة ببوروندي, واتفاقية ليناس-ماركوسيس الخاصة بساحل العاج. وحتى الآن تتم الإحالة دائما إلى القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى دخول ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية لحيز التنفيذ في 2004 وإقرار وجود المحكمة كآلية دائمة لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.
هناك استراتيجيات ذات صبغة قضائية واستراتيجيات أخرى لا تحمل هذه الصبغة مثل المحاكمات ولجان الحقيقة والسرد الشفهي ولجان تقصي الحقائق وبرامج التعويض وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي.
المحاكمات: مما لا شك فيه أن مبادئ التسامح لها أهمية ضرورية في أي مجتمع عانى من ويلات النزاعات والقمع والاضطهاد، ومع ذلك فهذا لا ينفي ضرورة إجراء محاكمات عادلة ضمن إطار القانون، وأهمية هذه المحاكمات لا تتمثل فقط في إدانة المتورط في انتهاكات حقوق الإنسان, وإنما تكمن أيضاً في تعزيز مبادئ المحاسبة والمساءلة في مرحلة انتقالية لطي صفحة الماضي, والبدء بمرحلة بناء بأسس جديدة.
وتعتبر الجهة الأصلية والمنفذة لهذه المبادئ والأسس هو الجهاز القضائي الوطني أو المحاكم الجنائية المختلطة الدولية والوطنية استناداً إلى التشريعات المحلية وباللجوء إلى القوانين الدولية في حالة عجز القضاء الوطني تأمين ذلك. إذ أنه من الممكن الاستفادة والتعاون على المستوى الدولي بتشكيل محاكم مختلطة في حالة انهيار القضاء المحلي أو في حالة كونه غير قادر أو راغب على مقاضاة المتهمين بإرتكاب جرائم تتعلق بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني لاسيما أن العدالة الانتقالية تتطلب تأمين استقلال القضاء ونزاهته على أن يتم التحقيق والمحاكمة وفقا للإجراءات القانونية ومنع المحاكمات المتعددة لذلك الجريمة، ويتطلب تأمين الحماية للشهود وحماية الإجراءات الخاصة يالمحاكمة، وفي هذه الحالات لا تطبق بما يعرف بالتقادم ولا تسقط التهم ضد الجناة, وليس مبرراً إطاعة الأوامر بالنسبة للعسكريين, ولا يتمتع أحد بما فيه رئيس الدولة بالحماية والحصانة من المحاكمة.
وغياب مبدأ المحاكمات من الممكن أن يؤدي إلى زعزعة الثقة في الدولة والقانون، وقد ساد تطبيق هذا المبدأ في العديد من الدول على مستوى القضاء الوطني ومن أمثلتها محاكمة الرئيس السابق للعراق صدام حسين والرئيس المصري حسني مبارك ورموز النظام السابق في ليبيا، وعلى المستوى الدولى محكمة نورنبيرغ لمجرمي الحرب النازيين في ألمانيا عام 1945 م, ومحاكمات يوغسلافيا السابقة لمجرمي الحرب “سلوبودان ميلوسوفتش” و”ردوفلن كرادتش” “وراتكو ملاديتش”, ومحكمة الجنايات الخاصة برواندا في عام 1994 م لمحاكمة القائمين على جرائم الإبادة الجماعية ومحاكمة “تشارلو تيلور” في ليبيريا وغيرها من المحاكمات التي تنظر فيها المحكمة الجنائية الدولية.
لجان الحقيقة: يعتبر الكشف عن الحقيقة ضروري وهام لعدة أسباب, أهمها مساعدة الوعي الجماعي للوصول إلى الحقيقة ما جرى من انتهاكات ومنع حدوثها في المستقبل وإنهاء حالة التشرذم والجدل بين الشرائح الاجتماعية المختلفة حول هذه الانتهاكات. وتعمل لجان الحقيقة على توثيق, مرحلة مهمة في تاريخ المجتمع حتى يمنع تزويرها أو إعادة كتابتها مستقبلاً، وفي ذلك تعتبر إحدى القضايا الحساسة التي تواجه العدالة والاستقرار, هي إمكانية الكشف عن أسماء الشرطة السرية وما له من فائدة في إنصاف المظلومين والذين عانوا بفعل التقارير التي تقدمها للسلطات، ولكن في ذات الوقت فإن الكشف عن أسمائهم سيتسبب في مشاكل اجتماعية ولهذا فإن وجود لجان للحقيقة سيساعد على التعامل الأمثل مع مثل هذه المعلومات، ومن التجارب السابقة كانت مشكلة الكشف عن أسماء الشرطة السرية من أهم التحديات التي واجهت ألمانيا الشرقية حيث واجهت أعداد ضخمة من عملاء جهاز أمن الدولة بعد سقوط النظام، فضلاً عن ذلك فإن كشف الحقيقة يساعد ضحايا الانتهاكات على التصالح مع ذواتهم عند معرفتهم لحقيقة ما جرى وإنهاء فترة مؤلمة في تاريخ حياتهم ويساعدهم على التأقلم مع مرحلة جديدة.
ومن الناحية التاريخية لممارسات للتجارب العالمية في هذا المجال, نجد أن دول أمريكا اللاتينية شكلت العديد من هذه اللجان، بحيث تأسست في بوليفيا عام 1982 م الهيئة الوطنية للتحريات حول الاختفاء القسري, وأسست الأرجنتين الهيئة الوطنية حول اختفاء الأشخاص في عام 1983 م وتبعتها تشيلي في الأعوام 1990-1991 م بتشكيل هيئتين الأولى عن الحقيقة والمصالحة والثانية عن جبر الضرر والمصالحة، وأسست في السلفادور عام 1994 م لجنة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان وتبعتها دولة بيرو في العام 2001 م والباراغوي عام 2003 م بتشكيل هيئات للحقيقة والعدالة، وفي القارة الأفريقية فقد كانت تجارب كل من رواندا عام 1990 م وجنوب أفريقيا عام 1995 م وسيراليون العام 2000 م أما أحداث تيمور الشرقية في القارة الأسيوية دفعتها إلى تأسيس هيئة التلاقي والحقيقة والمصالحة في العام 2002 م وتعتبر تجربة تشيلي, أولى مؤشرات التضامن الدولي مع الضحايا عام 1975 م وذلك عندما أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة وجود ممارسات بالتعذيب وسوء للمعاملة والاحتجاز التعسفي، وهو الأمر الذي شغل قطاعات قانونية وحقوقية من قبل المجتمع المدني للتفكير بتطوير المفهوم الذي اتخذ مصطلح العدالة الانتقالية, التي تعني أنها غير دائمة بل مؤقتة وتنشأ خلال عملية تحول انتقال من الحرب إلى السلم أو من حكم تسلطي إلى حكم ديموقراطي أو عقب نزاعات مسلحة دولية أو إقليمية أو محلية، ومجال اهتماماتها ينصب على التعامل مع الماضي, وكفالة احترام والإصلاح القانوني والمؤسسي وتعزيز المصالحة الوطنية والمساعدة في تعزيز التحول الديموقراطي.
السرد الشفهي ولجان تقصي الحقائق: ينطوي مفهوم السرد الشفهي على اعتبار قول الحقيقة أداة لمداواة الجراح والمصالحة، وتعتبرهذه الأفكار نتاج لثقافة الذاكرة التي نشأت خلال حقبة تاريخية في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ومصدر السرد الشفهي هو الديانة المسيحية التي لها دلالة الأعتراف أمام القس في الكنيسة والتوبة، ثم تطور المفهوم في مجال علم النفس من خلال أفكار “فرويد” عن قمع الذاكرة والبناء النفسي للمفهوم الناتج عن الاضطراب المرتبط بالكبت ما بعد الصدمات لأسباب اجتماعية ونفسية ويتم علاجه عن طريق الأسلوب الشفهي في السرد للإحداث والوقائع، ومن خلال التطورات رسخ مفهوم السرد الشفهي للعنف والمعاناة في الماضي كوسيلة لتحرير الذاكرة، وتجسدت الفكره في تعبير العفو أو النسيان
ومن حيث الممارسة الدولية, نجد لجنة تقصي الحقائق والمصالحة في سيراليون شجعت على السرد الشفهي للذكريات الشخصية للعنف والتعدي والتعذيب, بوصفه الطريق الأمثل للمصالحة ومداوة الجراح والسلام، واستخدمت في عملها شعارات وصور مطبوعة تضمنت رسوماً لقرى تحرق ورسوم لمقاتلين سابقين يدلون بشهاداتهم أمام مدنيين متجهمين مع بعض التعليقات، وقد كان الهدف من ذلك هو الترسيخ فى الأذهان نموذج مداواة الجراح والمصالحة من خلال ممارسة التذكر في قول الحقيقة, وبالتالي هو ما يعني, وضع اليد على إمكانيات تحقيق السلام في المستقبل.
وفي ذات السياق, هناك من حيث الممارسة أيضاً, أسلوب النسيان الاجتماعي الذي له الدور الأكبر في عملية إعادة الاندماج ومداواة الجراح بالنسبة للمقاتلين من الأطفال والبالغين في شمال سيراليون، وذلك عندما أعيد هؤلاء المقاتلون السابقون من الأطفال إلى مسقط رأسهم بعد التسريح، بحيث كان اختطاف الأطفال والشباب من الجنسين يتم تجنيدهم إلزامياً, وغالباً ما كان يتم إرغامهم على ارتكاب أعمال قتل وتشويه واغتصاب وخطف، ومن أجل وضع حد لهذه التصرفات من العنف منحت اتفاقية “لومي” عام 1999 م عفواً شاملاً لجميع المقاتلين مقابل التسريح والسلام، ومع ذلك كان هذا العفو يعني الغياب المطلق للمحاسبة على الانتهاكات الضخمة لحقوق الإنسان أثناء النزاعات, وسبباً لضغط المدافعين عن حقوق الإنسان على المستويين المحلي والدولي بتجاه تشكيل لجنة لتقصي الحقائق والعدالة والمصالحة التى انتهى بها الأمر إلى أن تصبح لجنة لتقصي الحقائق والمصالحة، وقد يكون كذلك لجان الحقيقة وسيلة هامة لتحديد مسؤوليات الدولة في ظل ظروف معينة خاصة بعد فترات خفية من العنف من قبل السلطة .
ولعله بذلك يستوجب أن يحظي عمل لجنة الحقيقة أو لجنة لتقصي الحقائق والمصالحة بتأييد شعبي قبل المباشرة به، وليس فقط في صفوف القادة السياسيين والمجتمع المدني, بل أيضاً وبصفة أساسية في صفوف عامة الناجين من أعمال العنف، كما يمكن أن تشكل التقارير التي تقدمها لجنة الحقيقة إطاراً معنوياً وتاريخياً لجلسات النقاش حول فترات العنف وقمع الدولة.
برامج التعويض وجبر الضرر: عند الحديث عن التعويض يجب الأخذ بالحسبان أن الكثير من الانتهاكات التي حصلت في الماضي لا يمكن بالضرورة استرجاعها، وهو ما يعني أن على الجميع إبداء الموافقة على الوسائل الأخرى التي يمكن بها التعويض عن مظالم الماضي، وهذا يستلزم التعويض بشقيه المادي والمعنوي وعلى السلطات توفير الفرص اللازمة لتعويض الضحايا وعائلاتهم كبرامج إعادة التأهيل لمن قضوا فترات طويلة في السجون, والرواتب الشهرية لمن فقدوا معيل الأسرة وتوفير السكن لمن شرد بغير وجه حق, وغيرها من التعويضات المادية والمعنوية، ويعتبر التعويض المعنوي لا يقل أهمية عن التعويض المادي ويأتي بأشكال عدة ومنها إعادة التاهيل النفسي والاعتذار الشفوي والمكتوب, والاعتراف بما جرى في الماضي وتوثيقه.
الإصلاح المؤسسي: تأتي مرحلة الإصلاح المؤسسي كخطوة مكملة للمراحل السابقة لضمان سلامة إنجاح مسيرة التحول الديمقراطي، بحيث أنه لا يجوز, أن تتم المحاسبة وتعويض الضحايا, مع الإبقاء على ذات تشكيل وأعضاء المؤسسات التي تورطت في ارتكاب الجرائم، وعليه يتطلب الأمر إجراء تعديلات هيكلية في المؤسسات ذات الصلة بالانتهاكات أو تطهير تلك المؤسسات من العناصر التي ثبت تورطهم في ارتكاب الجرائم في النظم السابقة، ولذلك يستوجب إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والإصلاح المؤسسي, والتغيير البنيوي لأجهزة الدولة حتى تمنع تكرار مثل هذه الممارسات في المستقبل، مع مراعاة المحاذير التي ربما تؤدي إلى انحراف العدالة الانتقالية عن مسارها, وتحولها من أداة تعمل على مساعدة المجتمع للانتقال إلى حالة الاستقرار والسلم إلى حالة مجتمعية قائمة على الإقصاء والتهميش والتوتر وربما إلى الحرب الأهلية.
تنتمي دراسات العدالة الانتقالية بشكل تقليدي إلى حقل القانون الدولي لحقوق الإنسان، ومع التطور في تطبيقات المفهوم تم توسيع مجالات دراسة المفهوم لتشمل العديد من الآليات والأهداف تنتمي للعديد من المجالات العلمية والبحثية، والآن يمتد الاهتمام بالعدالة الانتقالية عبر العديد من المجالات العلمية لاسيما مع إسهامات علماء القانون والسياسية والاجتماع والأنثروبولوجي والمؤرخين، ورجال دين، والصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان، وتعكس هذه الممارسات والأجندات البحثية التطورات المستمرة في مفهوم العدالة الانتقالية، والظواهر المرتبطة به من قبيل جهود تحقيق العدالة، إشكالية المسؤولية – الحصانة، ولجان الحقيقة، وجهود إعادة حكم القانون.
يتناول حقل العدالة الانتقالية أيضاً عملية إعادة النظر في الأوضاع السياسية والقانونية والفلسفية في بلد ما في أعقاب حرب ما، وهو يثير جدليات كثيرة أهمها التعارض بين الرغبة في تحقيق الهدوء بعد الحرب والرغبة في محاكمة منتهكي حقوق الإنسان، والحاجة لإرساء قواعد ذات مصداقية لمحاكمة انتهاكات الماضي في مقابل القيود على عمل النظام العقابي والجنائي والقانون الدولي، فضلاً عن إمكانية تحقيق المغفرة في الحياة السياسية، وعلى ذلك يمكن الدفع بأن العدالة الانتقالية نتاج للخطاب الدولي حول حقوق الإنسان أو على الأقل تشكل جزءاً منه.
ويلاحظ من متابعة الخطاب المتعلق بالعدالة الانتقالية أن هناك خارطة للتفاعلات بين هذا المفهوم، ومجموعة من المفاهيم التي تتقاطع معه في مجالات العمل وينبغي التعرض لها على النحو التالي:
العدالة الانتقالية وبناء السلام: يستخدم “بناء السلام” كمفهوم شامل يتضمن مجموعة من الأنشطة أو الإجراءات المتعلقة بخلق الشروط الضرورية لتحقيق السلام المستدام في المجتمعات محل الصراعات، وتحديد ودعم الهياكل التي تسهم في تقوية وترسيخ السلم من أجل تجنب الارتداد إلى حالة الصراع، ومن أهم الإجراءات التي يشملها: إعادة توطين اللاجئين والمشردين داخلياً، والتسريح وإعادة إدماج المحاربين السابقين، ودعم عملية التطور الديموقراطى، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وإعادة تأسيس حكم القانون .
العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية: يرجع تعبير”المصالحة الوطنية” إلى الزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديجول، وارتبط بشكل أساسي بضرورة تحمل مسؤولية محو ديون وجرائم الماضي التي وقعت تحت الاحتلال أو إبان حرب الجزائر، كما تحدث الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران عن هذا المفهوم بإعتباره ضامن الوحدة الوطنية، بعد ذلك استخدم مانديلا هذا المفهوم في جنوب أفريقيا عندما كان قابعاً في السجن، إذ رأى أن من واجبه أن يضطلع بنفسه بقرار التفاوض حول مبدأ إجراء العفو العام، الذي سيتبع أولاً عودة منفيي المؤتمر الوطني الإفريقي ويطمح إلى مصالحة وطنية، من دونها سيكون البلد عرضةً لمزيد من الاحتراق وإراقة الدماء التي سيقف وراءها الانتقام بكل تأكيد، وتشمل المصالحة الوطنية الإجراءات والعمليات التي تكون ضرورية لإعادة بناء الأمة على أسس شرعية قانونية وتعددية وديمقراطية في الوقت ذاته، وبذالك يمكن القول إن المصالحة هي أحد أهداف العدالة الانتقالية، بل هي في الواقع شكل من أشكال العدالة الانتقالية .
العدالة الانتقالية والنوع الاجتماعي: يتم الربط بين هذين المفهومين بهدف تصميم وتطوير عمليات العدالة الانتقالية بحيث تخاطب انتهاكات حقوق الإنسان القائمة على النوع الاجتماعي خلال فترات الصراع العنيف أو الحكم الاستبدادي، خاصة وأن المرأة عادة ما تكون أكثر عرضة للانتهاكات، كما إن الإساءات الموجهة للمرأة أكثر عرضة للتجاهل والاستهانة بها في إطار المؤسسات السائدة، فغالباً ما يتم انتقاد العديد من آليات العدالة الانتقالية لأنها لم تأخذ بالنوع الاجتماعي خاصة في بداياتها، لاسيما مع مساهمة بعض التقاليد الاجتماعية والبنى الفكرية المحافظة والتشريعات الخصوصية في مزيد من عرقلة مبادرات العدالة الانتقالية المرتبطة بالنوع في المجتمعات المعنية، لاسيما الدول العربية. فغالباً ما تدعو مؤسسات المجتمع المدني إلى إعطاء المزيد من الانتباه لوضعية النساء في عمليات العدالة الانتقالية، ويصبح السؤال هو كيف يمكن لإجراءات العدالة الانتقالية أن تمكن النساء، وأن تصحح الأوضاع التمييزية ضدهن في مجتمع ما؟
رغم حداثة فكرة العدالة الانتقالية نسبياً إلا أن الربع الأخير من القرن العشرين والثلث الأول من القرن الواحد وعشرين شهد قيام العديد من الدول إلى الاستعانة بالعدالة الانتقالية مثل الأرجنتين، وتشيلي، وجنوب أفريقيا، وبيرو، والسلفادور، وغواتيمالا والهندوراس، والبرازيل، وبوليفيا، وباراغواي، والاكوادور، وبنما، وكوستاريكا وكولومبيا، وروندا، وسيراليون، وأوغندا، وبولندا، والمجر، وليبيا، والمغرب وتونس وغيرها من الدول، التي لا يتسع المقام لاستعراض تجاربهم جميعاً في تطبيق العدالة الانتقالية، لذلك سنستعرض تجربة الأرجنتين المُلهمة في تطبيقها للعدالة الإنتقالية على سبيل المثال لا الحصر.
تطبيق الأرجنتين للعدالة الانتقالية
شهدت الأرجنتين تجربة ثرية من التحول الديمقراطي وتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية، حتي إن ظهور المصطلح نفسه ولد من داخل الأرجنتين، التي قدمت تجربة رائدة في هذا المجال، خاصة بالنسبة لدول العالم الثالث بوجه عام، وبالنسبة لأمريكا اللاتينية، بوجه خاص، ويمكننا استعراض تجربتها في مجال العدالة الانتقالية من خلال ثلاث مراحل.
المرحلة الأولى: بدأت هذه المرحلة بانقلاب عسكري قاده الجنرال خورخي فيديلا علي حكومة رئيسة الأرجنيتن ايزابيلا بيرون حينذاك في عام 1976 م، وهكذا استطاع العسكر أن يفرضوا سيطرتهم علي البلاد، حيث شكل الجنرال فيديلا مجلس عسكري مكون من 9 جنرالات قام بفرض الأحكام العرفية، وإلغاء الدستور، وحظر التظاهر والتجمهر وفرض الرقابة علي الصحافة والإعلام وفرض هيمنة العسكر علي النقابات ومنظمات المجتمع المدني، وأخيراً بدأ ما عرف باسم “الحرب القذرة” والتي استمرت لمدة ست سنوات هي طول فترة الحكم العسكري 1976ـ 1983 م.
أما عن السبب الحقيقي الذي تذرع به الجيش الأرجنتيني في تبريره لهذا الانقلاب أولاً وبهذه الحرب ثانياً، كان هو حماية الأرجنتين من خطر الشيوعية، وهكذا ظل العسكر طوال هذه السنوات الست يستخدمون كل الطرق غير المشروعة في قمع كل ما هو يساري سواء كانوا ثواراً أو طلبة أو إعلاميين أو أعضاء نقابات عمالية أو حتي مؤيدين، وكانت القوات العسكرية في حالة حرب حقيقية مع كل هؤلاء برغم أنهم في نهاية الأمر لم يكونوا أكثر من مواطنين عزل، كل ذلك كان يحدث تحت شعار ” حماية أمن الأرجنتين “.
وهكذا خلفت هذه المرحلة 30 ألف حالة اختفاء لشباب من الأرجنتين لم يعط العسكر لذويهم حتى الحق في دفن جثثهم أو معرفة كيف قتلوا أو متى، وغالباً ما كان يقوم النظام بقتل المعارضين وإلقاء الجثث في البحر أو حرقها حتي لا يترك وراءه أي دليل، هذا بالإضافة أيضاً إلي حالات الاعتقال والتعذيب.
ونظراً لحالة القمع الشديدة التي كانت مستشرية حينذاك لم يكن من الممكن تكوين أي حزب أو حركة احتجاجية داخل الأرجنتين خلال هذه المرحلة، فيما عدا حركة واحدة تعد مثالاً رائعاً وفريداً شهدته تلك الحقبة السوداء في تاريخ الأرجنتين، وهي حركة جمعية أمهات ميدان مايو.
بدأت هذه الحركة في عام 1977م حين تجمع 14 أم في ساحة ميدان مايو أمام قصر الرئاسة ليطالبوا المسئولين بالإفصاح عن مصير أبنائهم المختفين، ولأنهن مجموعة من الأمهات المسالمات لم يلحقهن أذى، إلا أن الحركة اتخذت في الأتساع وواكتساب الشعبية حتى أصبحت الحركة السياسية المعارضة الوحيدة حينذاك والتي لم يستطع النظام قمعها يوماً حتي إنها ومنذ ذلك التاريخ وحتي اليوم تواصل التجمهر في ساحة الميدان من خلال آلاف الأمهات كل يوم خميس، واللاتي لم يتخلفن مرة واحدة لأكثر من 30 عاما ليطالبن بحق أبنائهن الذين لم يعرفن أبداً ما حدث لهم، ومحاكمة القتلة، بل وتطورت الحركة لتنادي في وقفتها الأسبوعية بعدم تكرارما حدث لأبنائهن الشباب ليس فقط في الأرجنتين، ولكن في أي مكان آخر في العالم.
وفي ابريل عام 1982 م اتجه العسكر إلي احتلال “جزر الفوكلاند” التابعة لبريطانيا وضمها إلي السيادة الأرجنتينية، وذلك لصرف أنظار الشعب الأرجنتيني عن مشاكله الداخلية المعقدة، إلا أن الأسطول البحري البريطاني أنهي الصراع سريعاً وخرج الجيش الأرجنتيني منهزماً ومنكسراً من المعركة، وهكذا انتهت فترة الحكم العسكري القمعي، وعُقدت أول انتخابات ديمقراطية لأول مرة في البلاد منذ ست سنوات جاءت براؤول ألفونسين إلي سدة الحكم.
المرحلة الثانية: في عام 1983 م بدأ ألفونسين مرحلة التحول الديمقراطي في البلاد، ولكن كان عليه في أثناء هذا التحول أن يتعامل مع قضية شائكة جداً، وهي مشكلة الأشخاص المختفين، وهنا أنشأ لجنة لتقصي الحقيقة بأسم اللجنة الوطنية لدراسة مشكلة اختفاء الأشخاص واستطاعت اللجنة أن تضع تقريراً عن اختفاء 9000 شخص برغم عدم توفر الوثائق الكافية، وذلك بسبب إتباع النظام العسكري سياسة إخفاء الأدلة والوثائق باستمرار، ولكن علي أي حال عندما اكتمل التقرير ونٌشر في الجريدة الرسمية علي حلقات حدثت صدمة لدى الشارع الأرجنتيني من هول ما جاء به، ومن ثم بدأت المحاكمات ضد رموز ورجال الجيش المتهمين بانتهاكات إنسانية ضد المعارضة الأرجنتينية حتي أن ألفونسين لُقب برئيس نورمبرج الأرجنتيني لكن في واقع الأمر كانت طموحات “الفونسين” أكبر بكثير من قدراته علي تحقيق العدالة الانتقالية وكانت خبرة حكومته ضئيلة جداً في هذا المجال نظراً لكون التجربة الأرجنتينية تجربة رائدة في هذا المجال كما سبقت الإشارة إلي ذلك، وقد أخطأت حكومته في تقدير قوة النظام العسكري الذي تم إسقاطه، حيث إن خروجه من حرب “جزر الفوكلاند” مهزوماً جعله يتراجع عن الحكم ويخرج ذليلاً، ولكن هذا لم يكن يعني أنه كان ضعيفاً أو لا يملك السلاح علي غرار الجيش النازي بعد الحرب العالمية الثانية، بل علي العكس ظل الجيش الارجنتيني محتفظاً بكامل قوته وأسلحته وتنظيمه، ولكنه فقط عاد إلي ثكناته.
وسريعاً ما استطاع العسكريون استعادة قوتهم من جديد، وخاصة مع زيادة حدة المحاكمات، حيث بدأت تشهد الأرجنتين موجة من التفجيرات مجهولة المصدر، ولكن بالطبع كان الجميع داخل الدولة يعلم جيداً أن الجيش هو من يقف وراء هذه الأعمال الإرهابية، وزادت وطأة تلك الأعمال علي حكومة “الفونسين” الذي سرعان ما تراجع عن سياسته في إعمال آليات العدالة الانتقالية، ومحاكمة مرتكبي الجرائم من مسئولي النظام القمعي السابق، وخلال سنتين من الجذب والشد الذي تعرضت له حكومة الفونسين بين الإرهاب من قبل عصابات النظام العسكري القمعي السابق من جهة، ومطالب الشعب وجمعيات حقوق الإنسان وأهالي الضحايا من جهة أخري، ظهر مسار العدالة الانتقالية داخل الأرجنتين أشبه بالخط المتعرج بين أحكام قوية ضد العسكريين المسئولين عن اعتقال وقتل وإخفاء الآلاف وأحكام بالعفو رغم ثبوت التهم على العسكر، وقد اضطر “الفونسين” إلي إصدار قانونين في 1985 تحت تهديد رجال الجيش بإدخال البلاد في حرب أهلية إذا ما استمرت المحاكمات وتم تنفيذ الأحكام عليهم، وكانت تلك القوانين هي قانون، ” النقطة النهائية ” الذي حدد تاريخ نهائي لتقبل أي دعاوي ضد رجال النظام السابق، وأيضاً قانون “الامتثال للواجب”، وهو القانون الذي يعفي أي ضابط في الجيش في رتبة أقل من كولونيل من أي مسئولية قانونية إزاء قتله للمواطنين تحت دعوى أنه كان مضطراً لفعل ذلك لكونه عسكرياً كان ينفذ أوامر القيادة. حتي القادة أمثال “رينالدو بينونه” آخر رؤساء الأرجنتين في الحقبة العسكرية تمت إدانته والحكم عليه في عام 1983 م وتم العفو عنه في عام 1985 م، وقد كانت قوانين العفو العام التي صدرت في الأرجنتين بمثابة انتكاسة حقيقية لعملية تنفيذ العدالة وسيادة القانون في المرحلة الانتقالية داخل الأرجنتين، لكن علي أية حال كان تقرير لجان تقصي الحقائق ونشره بتفاصيله على عامة الشعب، وكذلك أيضاً نشر تفاصيل المحاكمات مكسباً لمسيرة العدالة الانتقالية لا يمكن إهماله علي الأقل في تلك المرحلة. واستمر الوضع علي هذا المنوال من التعرج، حيث تكرر مشهد فتح ملفات المحاكمات ثم غلقها وأحياناً إصدار أحكام تم تنفيذها بالإقامة الجبرية وليس داخل السجون حتي اختلف الأمر تماماً في 2005 م أي بعد 20 عاماً من صدور قوانين “الفونسين” سالفة الذكر.
المرحلة الثالثة: بدأت هذه المرحلة في عهد الرئيس السابق نستور كريشنر، حيث أعلن مجلس القضاء الأعلي في الأرجنتين قراراً في عام 2005 بعدم دستورية العفو العام الذي سبق تحت ضغط العسكريين، وهكذا بدأت الأرجنتين مرحلة جديدة من المحاكمات الجادة والعادلة لهؤلاء العسكريين الذين تمت إدانتهم بالفعل من خلال لجان الحقيقة والمحاكمات التي تمت في الثمانينات، واستطاع القانون أن يسري بشكل سليم في هذه المرة وسارت المحاكمات دون أي ضغوط من الجيش، فهؤلاء القادة تجاوزت أعمارهم الثمانين وحتى الضباط الآخرين المتهمين بتنفيذ المجازر ضد الشباب اليساري قد شارفوا علي الستين، بالإضافة إلى أن الجيش قد تغيرت تركيبته وأصبح يضم أجيالاً جديدة لا تدين بالولاء لهؤلاء القادة وليس لديها أدنى رغبة في شن حرب أهلية أو حتي أعمال إرهابية لحماية هؤلاء العسكريين المتهمين بإرتكاب تلك الجرائم الوحشية.
وبالفعل شهد عام 2010 م صدور أحكام ضد خورخي فيديلا قائد الانقلاب العسكري وحاكم البلاد حتى عام 1981 م والمهندس الفعلي لما عرف بأسم الحرب القذرة بالسجن لمدة 25 عاماً وقضاء هذه المدة في السجن المدني وليس تحت الإقامة الجبرية رغم أن عمره تجاوز ال85 عاما، وأيضاً حكم علي بينونه آخر الحكام العسكريين لمدة 25 عاما وعمره 81 عاماً، بالإضافة الي العديد من الأحكام ضد قادة وضباط من الجيش قادوا أو قاموا بتنفيذ انتهاكات جسيمة مثل الاعتقال والتعذيب والقتل وإخفاء الجثث بل وصل الأمر إلي حد خطف أطفال رضع من أبناء المعارضين بهدف ترهيبهم والقضاء علي تلك المعارضة، وقد أثبتت المحاكمات تورطهم بالفعل في كل تلك الجرائم، بالإضافة الي اعترافاتهم، مثل أعتراف أحد العسكريين والمعروف بأسم “ملاك الموت الأشقر” (علمتني قوات البحرية كيف أدمر وكيف أزرع القنابل وكيف أقتل، ربما ارتكبت بعض الأخطاء لكنني لن أتوب)، كما دافع “خورخي فيديلا” عن نفسه قائلا (إن النظام العسكري عمل علي الحيلولة دون وصول الشيوعية إلي الأرجنتين)، وهكذا كان طريق الأرجنتين طريقا طويلا ومتعرجاً إلا أنه في مجمله شهد خطوات عملية وتطبيقات جديرة بالمتابعة والدراسة للاستفادة من هذا التعرج والتخبط.
بعد ثورات الربيع العربي طرحت فكرة العدالة الانتقالية نفسها بقوة على الساحة السياسية في الوطن العربي، كوسيلة للتخلص من آثار الانتهاكات التي تعرضت إليها الشعوب العربية خلال العصورالبائدة، لاسيما أن استراتجيتها جديرة بتضميد جروح المواطن العربي المقموع ورأب التصدعات التي أصابت المجتمعات العربية تحت نير الأستبداد، وذلك من خلال محاكمة ومساءلة المتورط في انتهاك حقوق وكرامة المواطن العربي، أملاً في شفاء غليله الذي قد يدفعه إلى الانزلاق في دوائر العنف تحت وطأة الرغبة في الثأر والانتقام.
فالعدالة الانتقالية وإن كانت ترمي إلى الوصول إلى المصالحة الوطنية، إلا أنها لا تعني ابداً ” عفى الله عما سلف “، فقبل أن يتم تعميم العبارة هذه وإطلاق مبادرات المصالحة الوطنية، ينبغى التخلص أولاً من آثار الماضي، ومساءلة ومحاسبة كل من سولت له نفسه انتهاك كرامة المواطن العربي، وهذا ما فعلته تونس بعد ثورتها، بتشريعها قانون أساسي عدد 53 لسنة 2013 م مؤرخ في 24 ديسمبر 2013م يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها.
أما عن مصر فقد أُثيرت فكرة العدالة الأنتقالية بقوة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، فبالرغم من أن المُشرع الدستوري لم يغفل في تسطيره لدستور عام 2014م عن العدالة الانتقالية وخصها بالذكر في المادة 241 من الدستور التي تنص على أن ” يلتزم مجلس النواب في أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة واقتراح أطر المصالحة الوطنية وتعويض الضحايا، وذلك وفقاً للمعايير الدولية ” وبالرغم أيضاً من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 82 لسنة 2014م المتعلق بتنظيم وزارة للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، لم يتم حتى اللحظة الراهنة اتخاذ خطوات جادة نحو تبني سياسات العدالة الانتقالية، فهل سيأتي اليوم الذي نرى فيه إرساء لدعائم العدالة الانتقالية في ارض الكنانة أم أن هذا سيظل حلم بعيد المنال؟
المراجع:
1- العدالة الانتقالية والمصالحات الوطنية والمفاهيم والتطبيقات – الدكتور عمر عبد الحفيظ شنان
2- القانون الدولي الإنساني – دكتور محمد فهاد الشلالدة
3- معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية إلى دول ديمقراطية – نويل كالهون – ترجمة ضفاف شربا
4- العدالة الانتقالية في افريقيا – مظاهر تفكيك الأنظمة السلطوية – مجموعة من المؤلفين – تحرير أستاذ/ مصطفي بوجعبوط.
5- تجارب العدالة الأنتقالية في أمريكا اللاتينية – مؤلف جماعي – أشراف وتنسيق – مصطفي البوجعبوط.
6- الدستور المصري 2014م