شبح قانون العدالة الإنتقالية في كلّ مكان!  

 

” دستور 2014م  هو أفضل دستور تم إصداره في مصر على مستوى الحقوق والحريات حافظوا عليه يا شباب مهما حاولوا تشويهه “


هكذا وصى الأستاذ الدكتور محمود سامي جمال الدين – أستاذ القانون العام – طلابه في إحدى محاضراته في معرض حديثه عن الحقوق والحريات التي كفلها دستور 2014م برغم تعديلات 2019م التي طرأت عليه وشوهت بعض مواده المهمة على حد وصفه، إلّا أنّ من حسن الحظ لم تتعرض هذه التعديلات من مواده التي تحمي الحقوق والحريات بما فيها المادة 241 التي ألزمت مجلس النواب في أوّل دور لانعقاده بعد نفاذ الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة والمحاسبة ويرسم أطر للمصالحة الوطنية ويعوض الضحايا وذلك وفقًا للمعايير الدولية.

وبرغم من أنّ السلطة الحاكمة في مصر لم تتعرض لمواد الحقوق والحريات بشكل إيجابي مثلما حدث للمواد محلّ تعديلات 2019م، إلّا أنّها تعرضت بشكل سلبي لمواد الحقوق والحريات عن طريق امتناعها عن وضعها حيز النفاذ بما في ذلك المادة المتعلقة بإلزام مجلس النواب بإصدار قانون للعدالة الانتقالية في أوّل دور لانعقاده، ولا يخفي على أحد الأسباب التي دفعت مجلس النواب بالامتناع عن إصدار قانون للعدالة الانتقالية، فمجلس النواب استحال في ظلّ السلطة الحالية من سلطة ممثلة للشعب لها أدوار تشريعية ورقابية على أعمال السلطة التنفيذية إلى أداة بيد السلطة التنفيذية تُمرر بواسطتها القوانين التي تودّ تمريرها وتعزف عن إصدار القوانين التي لا تضع السلطة التنفيذية في موضع حرج أمام الرأي العام  حتّى ولو كان دستور 2014م ألزمها بإصدار هذه القوانين، ومن هذه القوانين قانون العدالة الانتقالية الذي لو تم إصداره ووضعه حيز النفاذ والرقابة على تطبيقه لأنتقل بنا إلى العدالة الدائمة، سيما في ظلّ الأوضاع المتردية لمنظومة العدالة التي تحتضر في مصر والذي تسعى السلطة الحاكمة إلى الإجهاز عليها بإصدار قانون الإجراءات الجنائية الجديد الذي إنّ وضع حيز النفاذ بصورته الحالية لأجهز على منظومة العدالة التي تملّكها الوهن والضعف خلال السنوات الماضية .



فلنترك الواقع يحكي لك عن الضعف الذي أصاب منظومة العدالة في مصر؟



لن نوصف الضعف الذي أصاب منظومة العدالة في مصر بتعبيرات إنشائية، فالواقع أبلغ من أيّ وصف عزيزي القارئ، فخلال الأسابيع الماضية حضر مكتب الإسكندرية للحماية القانونية تحقيقات نيابة وتجديدات حبس في قضايا هجرة غير شرعية، وتبدأ التحقيقات دائمًا برفض السيد وكيل النائب العام بإطلاع أعضاء المكتب على محضر ضبط المتهمين.

 وفي إحدى التحقيقات بعد مناظرة المتهمين وإخراجهم خارج غرفة التحقيق، تم استدعاء المتهم الأول ” م.ع ” – نرفض ذكر اسمه حفاظًا عليه من بطش الأجهزة الأمنية- تجاوز الخمسين من عمره- من محافظة الغربية  الذي بمجرّد ما تم سؤاله عمّا حدث وعن ظروف ضبطه حكى حكايته كاملة على النحو التالي :
 ” اللي حصل أنه في شهر 9 من عام 2023 كنت في بيتي بقرية ميت بدر حلاوة – مركز سمنود – محافظة الغربية حوالي الساعة 3.30 الفجر لقيت ظابط ومخبرين جم البيت وقالولي عايزينك في مركز سمنود وروحت معاهم واتعملي قضية هجرة غير شرعية في سمنود واخدت براءة وودوني بعد كده على مطروح واتعملي قضية هجرة اخدت فيها براءة ومنها على سيدي سالم – كفر الشيخ واتعملي قضية هجرة واخدت فيها براءة ومنها على سمنود اتعملي قضية هجرة واخدت فيها براءة ومنها على سيدي سالم – كفر الشيخ اتعملي قضية هجرة واخدت فيها إخلاء سبيل ومنها على مطروح اتعملي فيها قضية هجرة واخدت فيها اخلاء سبيل وبعد كده جابونا هنا ” 

وبعد رواية المتهم الأول روايته وإثباتها في تحقيقات النيابة العامة، تم إخراجه من غرفة التحقيق، وتم استدعاء المتهم الثاني ” ف.م ” – نرفض ذكر اسمه حفاظًا على عليه من بطش الاجهزة الأمنية – في منتصف العقد الخامس من عمره – من محافظة الدقهلية والذي جاءت روايته هو الأخر على النحو التالي:
” اللي حصل انه بتاريخ 25- 12 -2023 حوالي الساعة 2 الفجر كنت نايم في بيتي بقرية مركز طلخا – الدقهلية ولقيت ضابط ومخبرين جم اخدوني على مركز طلخا عشان هما قالولي أن هما هياخدوا مني كلمتين ومنه على مطروح واتعملي قضية هجرة اخدت فيها اخلاء سبيل ومنها على كوم حمادة – البحيرة واتعملي قضية هجرة اخدت فيها اخلاء سبيل ومنها على دمياط واتعملي قضية هجرة واخدت فيها براءة ومنها على المنتزه الأول – الإسكندرية واتعملي قضية هجرة واخدت فيها اخلاء سبيل ومنها على مطروح واتعملي قضية هجرة واخدت فيها براءة وبعدين جابوني هنا

بعد أن انتهى المتهم الثاني من روايته تم اخراجه خارج غرفة التحقيق، وتم استدعاء المتهم الثالث ” م.ع ” – نرفض ذكر اسمه حفاظًا عليه من بطش الأجهزة الأمنية – في أوّل العقد الخامس من عمره – من محافظة أسوان وبمجرّد مثوله أمام النيابة العامة روى روايته على النحو التالي:
اللي حصل أنه بتاريخ 1-2-2024 حوالي الساعة 12م كنت في بيتي بشارع البشاريه – خلف المستشفى العامة – قسم أوّل أسوان ولقيت ظابط ومخبرين جم أخدوني على قسم وقالولي أن هما هياخدوا مني كلمتين ومنه على قسم السويط بالغردقة واتعملي قضية هجرة اخدت فيها اخلاء سبيل ومنها على مركز ابنوب – أسيوط واتعملي قضية هجرة اخدت فيها اخلاء سبيل ومنها على كفر الزيات واتعملي قضية هجرة اخدت فيها اخلاء سبيل ومنها على قسم المنتزه ثان بالإسكندرية واتعملي قضية هجرة اخدت فيها اخلاء سبيل ومنها على مطروح اتعملي قضية هجرة واخدت فيها براءة وبعد كده جابوني هنا ”

بعد انتهاء التحقيق مع ” م.ع “، تم إخراجه خارج غرفة التحقيق واستدعاء ” م . ع. ا ” – نرفض ذكر اسمه حفاظًا عليه من بطش الأجهزة الأمنية – المتهم الرابع في أوّل العقد الثالث من عمره – من محافظة الدقهلية وبعد أنّ شرع السيد وكيل النائب العام التحقيق معه روى ما حدث معه على النحو التالي:
اللي حصل كنت راجع من إيطاليا يوم 17-7-2024 حوالي الساعة 4,30 الفجر وبعدين الأمن الوطني مسكني في المطار واتعرضت على النيابة العامة ومعرفش ليه واتخلى سبيلي بعد لما دفعت 200 جنيه مصالحة وبعد كده بيوم اتعرضت على إدارة الهجرة الغير شرعية وعملوا لي هناك ضبط واحضار واتعرضت على نيابة الحمام في مطروح واتحبست هناك أربعة أيام في 15 يوم وبعد كدا اتكفلت بمبلغ 5000 جنيه وبعدين النهاردة جابوني على هنا “

بعد انتهاء التحقيق مع المتهم الرابع قال له السيد وكيل النائب العام: حسبي الله ونعم الوكيل في اللي جابك هنا وذلك قبل أن يأمر بحبسه هو وزملائه أربعة أيام على ذمة التحقيقات!

لم تكن الروايات الأربعة السابقة سوى غيض من فيض لمئات ولن نبالغ إذا قلنا آلالاف من المتهمين في قضايا الهجرة الغير شرعية الذين يتم القبض عليهم عادةً بشكل عشوائي من قبل جهاز الأمن الوطني، فبمجرّد أنّ يتم إخلاء سبيلهم في قضية ويتم دفع الكفالة التي تقدر بعدة ألوف يجمعها ذويهم بالدين، يتم عرضهم على الأمن الوطني وهنا ضابط الأمن الوطني هو وحده الذي يقرر إخلاء سبيله من عدمه، فأصبحت قرارات إخلاء السبيل الصادرة من النيابة ومن دوائر جزئية ومستأنفة بل من دوائر جنايات في كثير من الأحيان ليست لها أيّ قيمة في نظر ضابط الأمن الوطني الذي لا يتورع أبدًا عن الضرب بقرارات إخلاء السبيل والأحكام الصادرة بالبراءة عرض الحائط. الأدهى والأمر أنّ أعضاء منظومة العدالة عن بكرة أبيهم – سّيما وكلاء النيابة والقضاة – يعلمون ذلك جيدًا ولا يجد صاحب الضمير الحيّ فيهم إلّا أن يتمتم بحسبي الله ونعم الوكيل كما فعل السيد وكيل النائب العام.



أين نحن من فيلم هي فوضى؟  

 

 في فيلم هي فوضى الذي تم طرحه عام 2007م، كان هناك تمثيل واضح للانتهاكات التي يقوم بها رّجال وزارة الداخلية قبل ثورة 2011م المجيدة، حين كان يقوم رّجالها بحبس مشتبه فيهم يتم إخلاء سبيلهم من قبل النيابة العامة في زنازين سرية تحت الأرض، فبعد انّ حاول أحد الضباط في الفيلم أن يُفهم وكيل النائب العام الجديد شريف حافظ – بطل الفيلم – أن هناك تعليمات تحول دون إخلاء سبيلهم فلم يجد إلّا ردًّا حادًا من بطل الفيلم ” الأوامر دي عليك أنت النيابة ما بتخدش أوامر من حد النيابة بتفذ القانون وبس “، قبل أنّ يقوم وكيل النائب العام – بطل الفيلم – بتفتيش مفاجئ لقسم الشرطة الذي من المنوط به تنفيذ قرارات إخلاء السبيل الصادرة من النيابة العامة، ليكتشف أنّ القرارات الصادرة من النيابة العامة لم تنفذ، في مشهد كان مأمور قسم الشرطة وضابط المباحث يتمنيان أنّ تبتلعهما الأرض.

لم يختلف الوضع ما قبل الثورة على هذا الصعيد عن الوضع الحالي الذي أصبح أسوأ بكثير، ولعلّ الأختلاف الوحيد أنّ وكيل النائب العام في الفيلم كان يشكل خطرًا على الضابط، وكان ضابط الشرطة يعمل له بدلًا من الحساب ألف وألف حساب، بينما في ظلّ الوضع الحالي فأعضاء منظومة العدالة برغم أنّهم يعلموا جيدًا أنّ قراراتهم لن تنفذ فلا يجد صاحب الضمير الحيّ فيهم والمعتز بمهنته ألّا أنّ يقول حسبي الله ونعم الوكيل، فأصبح وكيل النائب العام والقاضي يعملون بدلًا من الحساب ألف حساب بل ويحاولون التودّد للسيد ضابط الشرطة حفاظًا على مناصبهم وخشيةً من بطشه، فأين نحن من فيلم هي فوضى عندما كان يخشى الضابط وكيل النائب العام ويلوذ المواطنين بالنيابة والمحاكم من بطش الأجهزة الأمنية؟    

 

صاحبة الجلالة وقانون الإجراءات الجنائية الجديد والعدالة الإنتقالية

خلال الأسابيع الماضية فوجئ الجميع بصدور مشروع لقانون الإجراءات الجنائية، بعد أن كان الحديث عن تعديلات فقط على نصوص المواد المتعلقة بالحبس الأحتياطي، فبعيدًا عن أنّ التعديلات التي طرأت على نصوص الإجراءات الجنائية المتعلقة بالحبس الأحتياطي لم تضف جديدًا سوى تقليل مدد الحبس دون إيثار التدابير الأحترازية على الحبس، ففوجئ الجميع بتعديل بعض المواد  أقل ما يقال عنها  أنّها محاولة لشرعنة التنكيل بالمواطنين، وحين أعترض السيد الأستاذ/ خالد البلشي نقيب الصحفيين على التعديلات التي طرأت على قانون الإجراءات الجنائية التي لا ترمي إلى شرعنة التنكيل بالمواطنين وحسب بل رامية أيضًا إلى العصف بدور الدفاع فأصبح المحامي كأنّه دخيل على منظومة العدالة لا ركنًا أساسيًا فيها، تعرض السيد نقيب الصحفيين لهجوم شرس من اللجنة التشريعية لمجلس النواب التي أتهمت إياه بأنه يتعمد الزيف المتعمد، وكان الهجوم الأرعن الصادر من اللجنة التشريعية بمثابة الضوء الأخضر للأبواق الإعلامية الموالية للسلطة للهجوم على الأستاذ خالد البلشي الذي لم يمارس إلّا دوره كصحفي كانوا يطلقون عليه قديمًا السلطة الرابعة.

في خضمّ الأحداث الجارية والانتهاكات الجسيمة للدستوروالقانون وصدور مشروع جديد للإجراءات الجنائية يأتي طيف قانون للعدالة الانتقالية، الذي يتجاهله مجلس النواب برغم إلزام دستور 2014م لمجلس النواب بإصداره في أوّل دور انعقاد له، قانون للعدالة الانتقالية الذي لو تم إصداره وتطبيقه على أرض الواقع سيكون تريقًا ناجعًا، ولمَ لا ففي ظلّ الأنتهاكات التي مورست بل وما زالت تمارس من قبل الأجهزة الأمنية، لن يوجد رادع لمرتكبي هذه الانتهاكات سوى قانون للعدالة الانتقالية يتم إصداره وتطبيقه بل والرقابة على تطبيقه من قبل جماعات الضغط،  فكم من مواطن تم البطش به كما حدث للمواطنين الذين استعرضنا ما حدث لهم من انتهاكات دون ذنب يذكر دون تعويضهم وجبر الضررعنهم أو محاسبة المسئول عمّا حدث لهم؟ كم من مواطن تم أعتقالهم لمجرّد تعبيرهم السلمي عن رأيهم وحطمت حياتهم وحياة أسرهم لمجرّد ممارسة حق دستوري لهم وهو التعبيرعن رأيهم بحرية دون تعويضهم وجبر الضررعنهم ومحاسبة المسئول عنها؟

فمجلس النواب لو كان يحترم الدستوروالقانون ثمّة أحترام لكان من الأولى به إصدار قانون للعدالة الإنتقالية يشرف نوابه على تطبيقه بأنفسهم أحترامًا للمواطنين والمواطنات الذين من المفترض يمثلونهم، لو كان مجلس النواب عمل على إصدار قانون للعدالة الانتقالية لكان سعيه إلى الوصول إلى دولة سيادة القانون وإلى مصالحة وطنية حقيقية وإلى احترام حقوق الإنسان وإلى تقيد يد السلطة بدلًا من القيد بألف قيد حتّى لا يُساء استخدامها من قبل ضعاف النفوس وإلى إرساء بدلًا من الضمانة ألف ضمانة للعدالة، وقتها لم يكن ليقدّم على إصدار قانون كقانون الإجراءات الجنائية الجديد بما فيه من عوار دستورية ، ولثمن دور جماعات الضغط في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية ولأفسح المجال لها للرقابة على أعمال المجلس ذاتها لا إلى الردّ على نقيب الصحفيين ردَاً طائشًا لا يليق بسلطة كان يطلق عليها قديمًا مجلس الشعب.