إباحة القتل والضرب في القانون المصري

 

حدد المشرع المواد أرقام(60-61-62) من قانون العقوبات المصري لتكون خاصة لأسباب الإباحة في ارتكاب وموانع العقاب حال ارتكابها حيث أعفى القانون المجرم بنية سالمة أو الضرورة دفاعًا عن النفس أو الجنون وفاقد الشعور والاختيار.

مقدمة:

في مشهد يتصاعد فيه الحديث حول حقوق الإنسان وتعزيز العدالة في عصرٍ مُتسارع التطور، تظل مسألة اباحة وتبرير القتل والضرب تمثل تحديًا أخلاقيًا وقانونيًا. تسلط المادة (60) من قانون العقوبات المصري، بطبيعة نصها، الضوء على تلك المسألة، حيث تعطي انطباعًا بأنها تبرر فعل القتل والضرب تحت بعض الظروف وفقًا للشريعة الإسلامية. ومع ذلك، يبقى التساؤل الأساسي معلقًا: هل هذه المادة تعزز من مبادئ العدالة وحقوق الإنسان، أم أنها تفتح بابًا لتحميل الجرائم عذرًا دينيًا؟

هذه الورقة تُقدم تحليلًا عميقًا ونقديًا للمادة (60)، متطلعًا لإلقاء الضوء على تفاصيلها وتأثيرها، وبحث المسائل المرتبطة بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات. ستعمل هذه الورقة على فحص المفاهيم والمصطلحات القانونية والأخلاقية المتداخلة، بما في ذلك مفهوم إباحة القتل والضرب وأثره على تحقيق العدالة. كما ستُقدم الورقة رؤية تحليلية لأثر المادة على حقوق الإنسان، وإشكاليات تطبيقها العملي في ضوء الواقع المُعاش. باستخدام منهجية دقيقة وتحليل نقدي مستفيض، ستتناول هذه الورقة تصورات النقاد والمؤيدين للمادة، مُجسدًا في ذلك الموقف القانوني والأخلاقي من إباحة القتل والضرب بموجب الشريعة. سيُسلِّط البحث الضوء على التوازن بين التصوُّر الشرعي والتطلعات الحديثة لتحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان، مُجسدًا الخلاف بين النصوص الدينية ومبادئ حقوق الإنسان المعاصر. تهدف هذه المقدمة إلى إبراز الأهمية المركزية لهذه الورقة في تسليط الضوء على جوانب معقدة ومتناقضة للمادة ٦٠ و المتعلقة بحقوق الإنسان والعدالة. ستكون هذه الورقة دعوةً للنقاش والتفكير المتعمق حول التوازن بين المصالح القانونية والمبادئ الأخلاقية في تصوُّراتنا للجريمة وعقوباته.

الإطار النظري

صدر قانون  العقوبات المصري في العام 1937، وعلى مر السنوات تمت عمليات تعديل وتحديث له. يشمل هذا القانون مواد تعرف باسم (مواد الإباحة)، ومن بينها المادة 60 التي لم يطرأ عليها تعديل منذ تدشين القانون. تظهر المادة 60 تداخلاً معقداَ بين القوانين المدنية والشريعة الاسلامية، حيث تمنح تفسيرات دينية حق استخدام القتل والضرب في حالات محددة.

نص المادة (60) من قانون العقوبات : لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملاَ بحق مقرر بمقتضي الشريعة.

 

الإبــــــاحة

ما هي أسباب الإباحة ؟

أسباب الإباحة أو الأفعال المبررة هي تلك الأسباب التي إذا ما توافرت فيه الفعل او السلوك الإجرامي أخرجته من دائرة الإجرام إلى دائرة الإباحة.

علة الإباحة

  • علة التجريم وعلة الإباحة مرتبطان بحيث يمكن استخلاص ثانيهما من أولاهما.
  • فعلة التجريم هي حماية حق أو مصلحة فمثلًا تجريم القتل هي حماية الحق في الحياة.
  • أما علة الإباحة هي إنتقاء علة التجريم أى كون الفعل المباح لا ينال بالإعتداء حقًا.

يجب الإشارة إلى أن التطبيق الأهم الذي دوما ما يستخدم استنادًا للمادة (60) هو ما يتعلق بحق التأديب.

 

أولاً: حق التأديب ( إباحة الضرب ):

وعلة الإباحة بشأن حق التأديب هي ما قدره الشارع في أن مصلحة الأسرة ومن ورائها مصلحة المجتمع تقتضي أن تكون لبعض أفرادها سلطة على بعض وأن تدعم هذه السلطة بالحق في توقيع الجزاء على من يخرج عليها وهذا المصلحة إلى ترقى إلى مرتبة اعتبارها حق للمجتمع ترجع على حق الخاضع لسلطة التأديب في سلامة جسمه والغاية من حق التأديب هي تهذيب من يخضع وحمله على السلوك الذي يتفق مع مصلحة الأسرة ومصلحة المجتمع.

 

حــــالات التـــأديـب:

ترد حالات التأديب إلى اثنين: 1- تأديب الزوجة . 2- تأديب الصغار.

 

1- تأديب الزوجة

أ- رأي الشريعة في تأديب الزوجة

حددت قواعد الشريعة شروط تأديب الزوجة وهذه الشروط تعد جزء من القانون الوضعي إذا اًحال المشرع إليها وحصر اباحة الضرب تأديبا في نطاقها ولا ينشأ للزوج حق تأديب زوجته إلا اذا أتت معصية لم يرد في شأنها حد مقرر ويشترط ألا يكون أثر هذه المعصية قد رفع إلى الإمام أي السلطات العامة وإذا نشأ هذا الحق فهو مقيد من ناحيتين هما:

وسيلة التأديب:

وسائل التأديب في الشريعة ثلاث الوعظ, والهجر في المخضع, والضرب وهي مرتبة من حيث جواز الالتجاء إليها على النحو السابق ويعني ذلك أنه لا يجوز للزوج ضرب زوجته إلا إذا لجأ إلى الوعظ ثم الهجر وثبت عدم جدواها اما اذا وجدت وسيلة غير الضرب فلا يجوز الالتجاء إليه والضرب للتأديب مقيد بألا يكون شديدا ولا شائنا.

غاية التأديب:

شرع التأديب تهذيبا للزوجة ومواجهة لنشوزها ولذلك يتعين أن يكون الباعث للزوج على استعماله هو تحقيق هذه الغاية.

ب- رأي القضاء في تأديب الزوجة

تردد القضاء في شأن هذا الحق فبعض الأحكام أنكرته محُتجة بعدم نص القانون عليه وبعضها أطلقه من كل قيد وقد استقر القضاء في الوقت الحاضر على الاعتراف به في القيود التي تقررها قواعد الشريعة ومؤدي ذلك أنه إذا لم يكن فعل الزوج في هذه الحدود كأن ترتب عليه أثر في جسم الزوجة أو سحجات بسيطة أو كان لغير التهذيب فالزوج مسؤول عنه جنائيا.

 

مخالفة هذا التطبيق ( اتفاقية القضاء على اشكال جميع التمييز ضد المرأة المؤرخة في 18 ديسمبر سنة 1979)

  • تنص المادة (1) من هذه الاتفاقية على: يعني مصطلح التمييز ضد المرأة أي تفرقة أو استبعاد او تقييد يتم على اساس الجنس ويكون من آثاره او أغراضه توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في اي ميدان اخر او توهين او إحباط تمتعها بهذه الحقوق او ممارستها لها بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل.
  • المادة (2) تشجب الدول الأطراف جميع أشكال التمييز ضد المرأة وتتفق على أن تنتهج بكل الوسائل المناسبة ودون ابطاء سياسة تستهدف القضاء على التمييز ضد المرأة وتحقيقا لذلك تتعهد بالقيام بما يلي:

 

أ- إدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية او تشريعاتها المناسبة الأخرى إذا لم يكن هذا المبدأ قد أدمج فيها حتى الآن وكفالة التحقيق العملي لهذا المبدأ من خلال التشريع وغيره من الوسائل المناسبة.

 

ب- اتخاذ المناسب من التدابير, تشريعية وغير تشريعية, بما في ذلك ما يناسب من جزاءات, لحظر كل تمييز ضد المرأة.

 

ج- فرض حماية قانونية لحقوق المرأة على قدم من مساواة مع الرجل, وضمان الحماية الفعالة للمرأة, عن طريق المحاكم ذات الاختصاص والمؤسسات العامة الاخرى في البلد, من أي عمل تمييزي.

 

د- الامتناع من مباشرة أي عمل تمييزي أو ممارسة تمييزية ضد المرأة، وكفالة تصرف السلطات والمؤسسات العامة بما يتفق وهذا الالتزام.

 

هـ- اتخاذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة من جانب أي شخص أو منظمة او مؤسسة.

 

و- إتخاذ جميع التدابير المناسبة, بما في ذلك التشريعي منها, لتغيير أو إبطال القائم من القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكل تمييزًا ضد المرأة.

 

ز- إلغاء جميع الأحكام الجزائية الوطنية التي تشكل تمييزًا ضد المرأة.

  • المادة (5) تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة لتحقيق ما يلي: أ- تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة, بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الاخرى القائمة على الاعتقاد يكون أى من الجنسيين أدنى أو أعلى من الآخر، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة.

حقوق الإنسان والتوافق مع القوانين:

يثير التداخل في المادة (60) تساؤلات حول مدى توافقه مع معايير حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية الملزمة. يسلط الموضوع الضوء على تصادم ملحوظ بين إمكانية تأديب الزوج لزوجته وفقا للقانون المصري، وبين التزامات مصر الدولية في مجال حقوق المرأة. يعكس هذا التصادم تحديا يطرح العديد من الاستفسارات بشأن التوازن المطلوب بين القوانين المحلية والتزامات حقوق الإنسان الدولية.

 

2- تأديب الصغير

(فقهًا وقانونًا) قررت الشريعة الإسلامية حق تأديب الصغار وهي في هذا المجال قانون واجب التطبيق بالنظر إلى تعلقة بالولاية على النفس والرجوع إلى الشروط التي تقررها الشريعة لهذا الحق معين, فإذا انتفى أحدهما سئل في مرتكب الضرب عن فعله جنائيا واذا أضاف الشارع الوضعي الى هذه الشروط جديدا تعين كذلك تطلبه باعتبار أن كل ما يقرره القانون واجب الاتباع وهذه الشروط هي:

أ- حق تأديب الصغير هو للأب والوصي والأم وهذا الحق مقرر أيضا لمعلم المدرسة وملقن الحرفة بشرط إذن الأب أو الولي وقد تدخل على قواعد الشريعة بشأن تأديب الصغير تعديلين فمن ناحية يحظر القانون الوضعي التأديب عن طريق العقوبات البدنية في معاهد التعليم الحكومية من ناحية أخرى يضاف إلى من قررت لهم الشريعة هذا الحق (المخدوم) إذا أن العرف المستقر يخوله هذا الحق ويضاف كذلك المعلم في غير معاهد التعليم الحكومية وملقن الحرف ولو لم يأذن لهما الأب استنادًا إلى العرف.

ب- حق التأديب مقرر للتهذيب أو التعليم فإن ابتغيت به غاية غير ذلك وحق التأديب للصغير مقيد من حيث وسيلته في الضرب تأديب يتعين أن يكون خفيفا فإن كان فاحشا وهو غير مباح والضرب الخفيف شروطه فيتعين ألا يكون بغير اليد كالسوط والعصا ولا يتجاوز الثلاث وأن تتقي به المواضع المخوفة من الجسم كالرأس والوجه.

 

مخالفة هذا التطبيق (اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989)

  • تنص المادة (2) على تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة لتكفل للطفل الحماية من جميع أشكال التمييز أو العقاب القائمة على أساس مرآز والدي الطفل أو الأوصياء القانونيين عليه أو أعضاء الاسرة، أو أنشطتهم أو آرائهم المعبر عنها او معتقداتهم.
  • المادة (3) تتعهد الدول الأطراف بأن تضمن للطفل الحماية والرعاية اللازمتين لرفاهه مراعية حقوق وواجبات والديه أو أوصيائه أو غيرهم من الأفراد المسؤولين قانونًا عنه، وتتخذ، تحقيقا لهذا الغرض, جميع التدابير التشريعية والإدارية الملائمة.
  • تكفل الدول الأطراف أن تتقيد المؤسسات والإدارات والمرافق المسؤولة الرعاية أو حماية الأطفال من معايير التي وضعتها السلطات المختصة, ولا سيما في مجالي السلامة والصحة وفى عدد موظفيها وصلاحيتهم للعمل, وكذلك من ناحية كفاءة الإشراف.
  • المادة (4) تتخذ الدول الأطراف كل التدابير التشريعية والإدارية وغيرها من التدابير الملائمة لإعمال الحقوق المعترف بها في هذه الاتفاقية وفيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
  • تتخذ الدول الأطراف هذه التدابير إلى أقصى حدود مواردها المتاحة و وحيثما يلزم، في إطار التعاون الدولي.

حقوق الإنسان والتوافق مع القوانين:

يتيح القانون المصري إمكانية تأديب الطفل بالضرب في حالات محددة، تُظهر هذه الممارسة انعكاساً سلبياً على حقوق الطفل وسلامته الجسدية والنفسية. إذ تُعارض هذه الممارسة بشكل واضح الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، التي تُجمٍّع علي أهمية حماية الأطفال من أي أذي جسدي أو نفسي.

من المهم أن يتم مراعاة التوازن بين القوانين المحلية والالتزامات الدولية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بحماية حقوق الأطفال. ينبغي أن يكون تفسير القوانين المحلية متسقا مع التزامات مصر الدولية، وأن تتخذ السلطات التدابير اللازمة لضمان تحقيق الحماية الكاملة للأطفال. ينبغي التشديد على أن الأطفال يجب أن يتمتعوا ببيئة آمنة ومحمية تشجع على تنمية جسدية ونفسية سليمة. يُشجِّب تأديب الاطفال بالضرب، ويجب تبني سياسات تعزز الحوار والتوجيه كوسائل لتربية الأطفال وتنمية سلوكهم الإيجابي.

 

ثانياً: إباحة القتل:

ظهرت خطورة تطبيق المادة (60) من قانون العقوبات عند استناد دفاع المتهمين المتورطين في قتل عدد من الأدباء والمفكرين, على سبيل المثال اغتيال الكاتب فرج فودة.

في سياق يُجسد تعقيد العلاقة بين القانون والدين، نجد أن المادة (60) من قانون العقوبات المصري تأخذ شكلًا محوريًا في تلك القضايا. يسلط هذا المشهد الضوء على حادثة قتل تكلفها أبعادٌ فريدة من نوعها، حيث تجمع بين القانون والدين والعدالة.

المشهد يتناول حادثة قتل حدثت بين جانبين متنازعين. كان المتهم قد أقدم على قتل الضحية بشكل مفاجئ، وأثناء محاكمته، أتى دفاعه بتبرير مُقتبس من المادة (60). زعم الدفاع أن المتهم ارتكب الجريمة باعتبارها “عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة”، مبررًا فعلته على أنها جاءت كرد فعل لخرق الضحية للقوانين الدينية.

الجدل القانوني بدأ يتفشى حينها. مع مراجعة التفاصيل، ظهرت وجهات نظر متباينة بين الفريقين: الدفاع والادعاء. بينما اعتقد الدفاع أن المادة ٦٠ تُقدم أساسًا للتبرير، رأى الادعاء أنها لا يجب أن تُفسر على أنها مبرِّر للجريمة. تأصلت تلك الوجهات في الفهم المختلف للشريعة ومفاهيم العدالة.

فريق الدفاع أشاد بالمادة (60) باعتبارها تعبيرًا عن التوافق بين القانون والشريعة. ظهرت وجهة نظرهم في رؤية القتل كرد فعل مبرِّر لاعتداء على القيم الدينية، وهو ما يؤكد على احترام الشريعة وحقوق الإنسان على حد سواء.

من ناحية أخرى، اعتبر الفريق المخالف للمادة أن هذا التفسير قد يفتح الباب أمام سوء فهم للعدالة، وقد يؤدي إلى تشجيع جرائم القتل تحت مبرِّر ديني. رأوا أن العدالة لا يجب أن تُظلل بواسطة المعتقدات الدينية، وأن الشريعة يمكن أن تتناقض مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

 

اغتيال الكاتب فرج فودة

 

من فرج فودة؟

فرج فودة كاتب ومفكر مصري, ولد في 20 أغسطس 1945 ببلدة الزرقا بمحافظة دمياط في مصر، وهو حاصل على دكتوراه في الاقتصاد الزراعي من جامعة عين شمس.

أصدر العديد من الكتب التي تخصصت في الدعوة العلمانية وفصل الدين عن الدولة, نذكر منها: قبل السقوط، الحقيقة الغائبة، حوار حول العلمانية، الملعوب، الإرهاب، الطائفية إلى أين. بالإضافة إلى عديد من المقالات والندوات التي نشرت في عدد من الصحف والمجلات.

وكان فرج فودة أحد أعضاء حزب الوفد, ثم أعلن استقالته من الحزب إثر تحالف حزب الوفد مع جماعة الإخوان المسلمين عام 1948, واعتبر ذلك من قبيل الردة السياسية, والتخلي عن المبادئ الأساسية التي قام عليها الحزب من العلمانية وفصل الدين عن الدولة, ومنذ ذلك الوقت وهو يسعى لتشكيل حزب مستقبل.

وقد أثارت كتابات فرج فودة التي يدعو فيها إلى دولة مدنية جدلًا واسعًا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين, واختلفت حولها الآراء حتى أدت في النهاية إلى اغتياله.

وحاول فرج فودة تأسيس حزب باسم حزب المستقبل, ولكن لجنة شؤون الأحزاب رفضت, فأسس (الجمعية المصرية للتنوير) في شارع أسماء فهمي بمصر الجديدة, وهي التي اغتيل أمامها.

 

إرهاصات الاغتيال:

في 14 مايو 1992 صدر بيان جبهة علماء الأزهر برئاسة الدكتور عبد الغفار عزيز عميد كلية الدعوة الإسلامية بالمنوفية, وعضو مجلس الشعب سابقًا, نشرته جريدة “النور”, أعلن البيان أن “الدكتور فودة يلعب دورًا بورقة الأقباط في مصر, وينصب نفسه حاميًا لحماهم, ويرى أن نضحي بقضية تطبيق الشريعة كليا، حتى لا نخدش مشاعر النصارى”, ويقرر البيان أن “أفكار فرج فودة خارجة عن الإسلام, وأنه من أتباع اتجاه لا ديني، شديد العداوة لكل ما هو إسلامي”، وطالب البيان بعدم السماح لحزب المستقبل الذي يؤسسه فرج فودة حتى لا يزيد النار اشتعالًا، لأن الاتجاه الحزبي سيؤدي إلى بلبلة الأمة، وتقويض دعائم الأمن والاستقرار.

وكان الموقعون على البيان: الشيخ محمد الغزالي, والدكتور محمد عمارة عضو هيئة كبار العلماء, والشيخ محمد متولي الشعراوي.

وقبل اغتيال فرج فودة بعشرة أيام، وبالتحديد في 27 مايو 1992، قال الشيخ محمد الغزالي في ندوة بنادي هيئة التدريس بجامعة القاهرة عن الدكتور فرج فودة وعن دكتور فؤاد زكريا: “إنهما يرددان كلام أعداء الإسلام في الخارج، ربنا يهديهم، وإن ما هداهمش، ربنا ياخدهم”. وكانت هذه مع بيان جبهة علماء الأزهر بمثابة رسالة التكليف بالقتل.

وقبل أسبوع نشرت جريدة “النور” في أول يونيو 1992 مقالًا للدكتور محمد مزروعة رئيس قسم العقائد بالأزهر الشريف، تحت عنوان “فرج فودة مرتد نذر حياته للحرب على الإسلام” وجاء فيه أنه “يجوز لآحاد الأمة تطبيق حد الردة منعًا للفتنة والفساد”.

وما يعد أكثر خطورة هو ما أورده الشيخ محمد مزروعة للصحفي حسن الخطيب في جريدة “فيتو”,  بتاريخ 17 ماو 2013, والذي اعترف فيه الشيخ “مزروعة” بمقابلته للجناة قبل يومين من الحادث قائلًا بالنص: “هناك أمر حدث لم أذكره من قبل، وهو أن هؤلاء الشباب طلبوني هاتفيًا، وكنت وقتها استاذًا معارًا بجامعة قطر، وكنت مسافرًا بعد يومين لقطر، وطلبوا مني مقابلتي شخصيًا، وقالوا إنهم جماعات إسلامية تريد استشارتي في أمرٍ ما، فقلت لهم تفضلوا في بيتي، فرفضوا، وأعطوني موعدًا في بنزينة قريبة من شيراتون المطار، وفي الساعة المحددة توجهت لهم في البنزينة، وتركت سيارتي للعمال وطلبت غسلها وتوضيبها، ودخلت مع أحدهم في حجرة داخلية بعيدة عن البنزينة، وجدت مجموعة من الشباب وسألوني عن حكم قتل المرتد. فقلت لهم يجب قتله. فقالوا إذا لم يقتله الحاكم؟ قلت يقوم به عامة المسلمين وفي أعناقهم ضرورة قتله وبعدها انصرفوا، وبعد يومين سافرت قطر وفي الصباح حدثت الحادثة.

وبعد قتل فرج فودة أصدر الدكتور عبد الغفار عزيز كتابًا بعنوان “من قتل فرج فودة” قال فيه: “إن ما فعله القتلة لم يكن بدافع قطع الطريق أو السرقة بالإكراه أو الثأر أو الاغتصاب، وإنما بسبب الحمية والإيثارة والغيرة على الدين، وأن من قتل فرج فودة هو فرج فودة”.

                              

أسباب الاغتيال:

في التحقيقات قال المتهم الثاني أشرف السيد إبراهيم الذي نفذ فيه حكم بالإعدام في قضية أخرى وذلك قبل انتهاء محاكمته في قضية فرج فودة. إن سبب اغتياله للدكتور فرج فودة أنه كافر، ولما سألته المحكمة “من أي كتبه عرفت أنه كافر؟” قال إنه لا يقرأ ولا يكتب ولكنه علم من المشايخ.

تنفيذ الاغتيال:

خلال فترة ثلاثة أشهر سابقة على يوم 8/6/1992 قام المتهمون: عبد الشافي أحمد محمد رمضان، و صفوت أحمد عبد الغني، و منصور أحمد أحمد منصور “محام”ـ بالاتفاق مع باقي المتهمين الثلاثة عشر على قتل الكاتب فرج فودة. فأفتى لهم صفوت عبد الغني بشرعية قتله وإعداد أسلحة نارية وذخائر لاستخدامها في الحادث.

 

التحريض والتكليف بالجريمة:

تم التحريض من صفوت عبد الغني الذي كان محبوسًا بالسجن, ومحكومًا عليه بالإعدام في قضية اغتيال الدكتور رفعت المحجوب. حيث أخرج ورقة صغيرة من علبة الكبريت يأمر فيها عبد الشافي أن يفعل شيئًا مع فرج فودة، وأعطى الورقة لمحاميه منصور أحمد منصور (المتهم الرابع) لتوصيلها إلى عبد الشافي الذي ساعده باقي المتهمين.

الواقعة:

وكان المتهم الأول عبد الشافي أميرًا للجماعة الإسلامية لتنظيم الجهاد بمنطقة الزاوية الحمراء قد سولت له نفسه قتل الكاتب فرج علي فودة لقناعته بفتوى تضمنها منشور منسوب لأمير الجماعة الشيخ عمر عبد الرحمن, تقضي بإهدار دم فود، واستباحة قتله بزعم أنه كافر ومرتد عن دين الإسلام، وعلماني ويهاجم في كتبه ومقالاته الإسلام والمسلمين، ويتبنى شعار الهلال مع الصليب، وفصل الدين عن الدولة، وكان هذا المنشور قد تم توزيعه أثناء ترشح الدكتور فرج فودة في انتخابات مجلش الشعب عن دائرة الشرابية عام 1987.

ظل خاطر الاغتيال يراود عبد الشافي كلما اطلع على بعض كتابات فرج فودة, حتى استحوذت على نفسه فكرة التخلص منه، وعندئذ أفضى قبل الحادث بعدة أشهر إلى زميله أشرف السيد إبراهيم. عضو الجماعة الإسلامية وشريكه في تجارة الأسماك. بما عقد العزم عليه، وعرض عليه المساهمة معه في تنفيذ جريمة الاغتيال.

 

من اعترافات المتهمين:

 

اعتراف المتهم عبد الشافي:

اعترف المتهم الأول عبد الشافي أحمد محمد رمضان بتحقيقات النيابة العامة أنه قد فكر في اغتيال الكاتب فرج فودة في عام 1987 إبان ترشحه لانتخابات مجلس الشعب عن دائرة الشرابية، وأثناء الحملة الانتخابية وزع منشورًا مناهضًا له نسبه للشيخ عمر عبد الرحمن أمير عام الجماعة الإسلامية، يفيد فتوى بإهدار دم الكاتب فرج فودة واستباحة قتله بزعم أنه كفر وارتد عن دين الإسلام لما أبداه من آراء في كتبه ومقالاته وندواته، فضلًا عن تبنيه رفع شعار الهلال والصليب، وفصل الدين عن الدولة، وأن خاطر الاغتيال ظل كامنًا في نفسه يلح عليه كلما اطلع على كتابات لفرج فودة حتى استقر رأيه على التخلص منه في غضون نهاية عام 1991 والنصف الأول من عام 1992, وأخذ يعد عدته للتنفيذ.

 

من مرافعات الدفاع:

 

مرافعة الأستاذ/ عبد الحليم مندور

بعد أن تحدث الأستاذ مندور عن جسامة العبء الملقى على عاتق المحكمة، قال إنه ليس المطلوب من الهيئة الموقرة الفصل في قضية، وإنما إعادة حياة جديدة لهذا الوطن متمثلًا ذلك في قول الله تعالى لنبيه موسى: ’’لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى‘‘.

إن هذه القضية ليست قضية قتل فرج فودة، وإنما هي قضية أكثر من قرن من الزمان للملاحدة التي فيها وأد لحضارة مصر، ونربأ للنيابة أن تدافع عن فكر الملحدين.

هناك كتب كثيرة صدرت تتناول فكر الملحدين، وفيها طرح لمناقشة أفكارهم، وهي تطرح لعرضها على القضاء.

إن الاتهامات الموجهة للشباب الإسلامي لم تلفق من فراغ، ولا يمكن فصلها عن المناخ التي نشأت فيها والبيئة وترجع جذور هذا الصراع إلى حملة نابليون وهي حملة صليبية، والاحتلال الإنجليزي هو حلقة في سلسلة الأعمال الصليبية على الشرق العربي لوأد الإسلام ومحاربته.

والمجني عليه في القضية الماثلة هو الذي ساعد على إذكاء نار الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، والأحكام الصادرة كلها في هذه النوعية من القضايا قد ذكرت أن الشريعة الإسلامية واجبة التطبيق.

إن مانُسب للشباب المسلم من إحراق الكنائس ليس لها أساس ومختلفة ومكذوبة، ولم يثبت ذلك على أحد منهم. وما يحدث ليس سوى اعتداءات من قبل أجهزة الدولة لإلصاق هذه التهم للشباب؛ وذلك لإشعال نار الفتنة الطائفية، ومنذ قتل فرج فودة لم يحدث حادث للفتنة الطائفية نشرته الصحافة، ولما انقضت الفتنة الطائفية انصرفت السلطة الحاكمة في مصر إلى تسمية الشباب المسلم بأنهم إرهابيون.

إن كل ما يطلبه هذا الشباب المسلم هو تطبيق للشريعة الإسلامية وهم لا يريدون أن يكونوا حُكامًا. نحن لا نعتنق فكرًا إرهابيًا، ولا نشجع على الإرهاب، وكل ما نطالب به هو وقف هذا النزيف، وهو لا يتأتى إلا بأن تستجيب الدولة لتطبيق الشريعة الإسلامية.

الدفع باستعمال الحق:

ودفع الدكتور مندور بأن ما وقع من المتهمين هو في نطاق الإباحة فقال: لا يتصور في رأينا كدفاع أن يعاقب المتهمون لو صح هذا الفعل، وإنما يحاسبون عن الخطأ؛ فإن القانون وضع قاعدة الإباحة في الشريعة الإسلامية في المادة 7 من قانون العقوبات، وجعل من المادة 60 إحالة على أن الشريعة هنا مطلق الشرائع.

والشريعة لكونها تشبع حاجة معنوية في الإنسان والتجاء الإنسان للدفاع عن دينه، والدين هو أول ما ينبغي الدفاع عنه إذا ما اعتدى عليه، وأن كل حق يتقرر لصاحبه يعني أن لصاحبه ممارسته والدفاع عنه بالوسيلة التي يراها.

أن الشريعة جزء من النظام القانوني، وعلى الدولة أن تهيئ للشريعة ما يتلاءم مع ما يؤثمه وتقدمه للقضاء.

المجني عليه مرتد:

واستطرد الدفاع يقول: لقد أساء المجني عليه إلى الدين وإلى الخالق والمخلوق، وأراد أن يشيع الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، وقتل المرتد أيًا كان من قتله لا يمكن أن يقال عليه إنه لتحقيق غرض غير مشروع، وإنما قد حدث هذا لغرض مشروع. فالمشرع رأى التضحية بالمصلحة الفردية عن مصلحة الجموع؛ ذاك أن إزاحة الضرر ورُجحانه مقدم على مصلحة الجماعة، وأن الأصل في الشريعة أنه إذا كانت ظروف الجماعة تقتضي الإباحة فإن هناك الإذن بها.

والضرورة تبيح المحظور؛ لقوله تعالى (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)، و لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’من تشفع في حد فقد حاد الله ورسوله‘‘، ويرى الدفاع أن من يرى كفرًا بين الناس عن اقتناع صحيح؛ فلا شئ عليه إن وقع الحد على هذا الكافر المرتد، وأن من حق الرعية تسديد الحاكم أو التخلص منه إذا وجد أن هناك كفرًا بواحًا، والمجني عليه أحل حرامًا وحرم حلالًا.

ونحن ندافع هنا عن شباب الإسلام، بل وعن الإسلام نفسه. فكما قال الله تعالى في كتابه الكريم: (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)؛ فأولى بنا أن ننصر المظلومين.

 

استغلال الدفاع لشهادة الغزالي و’’مزروعة‘‘:

حضر الدكتور عبد الحليم مندور المحامي عن المتهم الأول عبد الشافي أحمد محمد رمضان, ودفع احتياطيًا بإباحة قتل فرج فودة لأنه أساء إلى الدين وإلى الخالق والمخلوق، وأراد أن تشيع الفتنة بين أبناء الوطن، وأنه يعتبر كافرًا ومًرتدًا عن الإسلام، وأن قاتله كائنًا ما كان من ارتكب الجريمة يعد مرتكبًا لفعل مشروع، ومن قبيل تقديم دفع المضرة على طلب المنفعة.

وذهب الدكتور مندور إلى القول بأن من يرى كفرًا فلا شئ عليه إن هو وقع الحد على الكافر المرتد، وأن دستور الدولة ينص على أن الإسلام هو دينها الرسمي، بما يستتبع أن تطبق الدولة على نفسها ما يلزم المسلم نفسه به، وان يكون تشريع الله هو الواجب الاتباع. إلا أن الدولة لا تطبق الشريعة الإسلامية  فما زالت القوانين الوضعية تبيح الزنا والربا والميسر على خلاف ما تقضي به الشريعة الغراء، وأن هذا الوضع يعد تجزئة لتطبيق الشريعة ويعتبر فتنة أكبر إثمًا من عدم تطبيقها كُلية، واستدل بقول الله تعالى: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك), وأضاف: إن الفتن تُتقي بالقتل إذ يدفع الأثر بالأقل، ويكون القتل دفعًا لمضرةٍ أو لفتنة قتلًا مباحًا.

واستطرد الدفاع قائلًا: إن هذا يستتبع ضرورة تطبيق أحكام الشريعة، وأن من لم يحكم بها يعد كافرًا، وأن لا طاعة لحاكم يسن قوانين مخالفة للشريعة أو يعطل تطبيق أحكامها ولو جزئيًا.

 

رد المحكمة على الدفع بإباحة قتل المجني عليه:

قالت المحكمة في أسباب حُكمها: إن الدفاع ركن في هذا الدفع إلى شهادة كل من شاهدي النفي: الشيخ محمد الغزالي السقا, والدكتور محمود مزروعة بالجلسة, وإلى المادة (60) من قانون العقوبات, التي تنص على أنه لا تسري أحكام هذا القانون على كل فعل ارتكب بنية سليمة؛ عملًا بحق مقرر بمقتضى الشريعة, وأوردت الأسباب الآتية:

أولاً: لا يُماري أحد من المسلمين في وجوب تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية؛ فهي التشريع الأسمَى, والرسالة الختامية التي بعث الله بها إلى البشر كافة بواسطة رسوله الأعظم خاتم الأنبياء المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ليخرجهم من ظلمات الجهالة ونير العبودية إلى نور الهداية والحرية, ويهديهم صراطًا مستقيمًا, والسلام عقيدة وشريعة؛ إذ يُنظم الدين والدنيا, ويُحدد علاقة الإنسان بربه, وعلاقته بأسرته وأفراد مجتمعه كأحسن ما يكون التنظيم والإحكام, ولا غرو في تلك فهو من لدُن حكيم خبير, ولا مجال للمقارنة بين التشريع السماوي والتشريعات الوضعية غير المستمدة من الشريعة الإسلامية, فأنى لتلك الأخيرة أن ترقى إلى مَدارج الكمال في التشريع الذي ارتضاه الخالق الرحمن الرحيم لعباده.

ثانياً: انطلاقًا من تلك الحقيقة فقد نصت المادة الثانية من الدستور المصري القائم على أن الإسلام دين الدولة, ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع, ومن المقرر أن هذا النص ليس واجب الإعمال بذاته, وإنما هو دعوة للشارع كي يتخذ الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسيًا فيما يستنه من قوانين, ومن ثم فإن احكام تلك الشريعة لا تكون واجبة التطبيق بالتعويل على النص الدستور المشار إليه إلا إذا استجاب الشارع لدعوته وأخرج هذه الأحكام في نصوص تشريعية مجردة ومنضبطة, تنقلها إلى مجال العمل والتنفيذ.

ثالثًاً: من المقرر قانونًا أنه يقصد بما نصت عليه المادة (60 عقوبات) أن استعمال الحق مقرر بمقتضى القانون أينما كان موضع هذا الحق من القوانين المعمول بها باعتبارها كلا متسقًا مترابط القواعد, يعتبر سببًا من أسباب الإباحة إذا ما ارتُكب بنية سليمة؛ فالقانون لا يفترض قيام مصلحة يعترف بها ويحميها بحيث يسمح باتخاذ ما يلزم لتحقيقها واستخلاص ما تنطوي عليه من مزايا, وهو في ذلك إنما يوازن بين حقوق يُهدر أحدهما صيانة للآخر.

رابعاً: من المقرر فقهًا أيضًا أن عبارة ’’عملًا مقرر بمقتضى الشريعة” الوارد في المادة (60) من قانون العقوبات يقصد بها “عملًا بحق مقرر بمقتضى “القانون”‘‘ كما جاء في الترجمة الفرنسية لتلك المادة, ويبرر التفسير اللغوي لهذه العبارة القول بأن المقصود بالقانون في هذه المادة القاعدة القانونية التي تصدر عن السلطة التشريعية وتقرر حقا, وأن القانون المكتوب هو المصدر الوحيد للحق الذي يقرر ارتكاب الجريمة, بيد أنه يجب الالتجاء إلى الأسلوب المنطقي, وإلى القياس في مجال التعرف على حقيقة قصد الشارع.

ولا شُبهة في أن كلمة ’’القانون‘‘ تَصدق على فروع القانون المختلفة, فمِن الحقوق ما يكون مصدره قانون العقوبات, كحق الطعن على أعمال ذوي الصفة العمومية المنصوص عليه في المادة 304/2 عقوبات, وحق التبليغ عن الجرائم المنصوص عليه في المادة 301, وحق الدفاع أمام المحاكم المنصوص عليه في المادة 309 منه؛ فكلها حقوق تُبرر القذف أو السب أو البلاغ الكاذب, ومن الحقوق ما يكون مصدره قانون الإجراءات الجنائية, كحق القبض المقرر في المادة 37 لكل من شاهد الجاني مُتلبسًا بجناية أو جنحة يجوز فيها الحبس الاحتياطي, وحق الشاهد في الامتناع عن الشهادة ضد المتهم إذا كانت بينهما قرابة أو مُصاهرة إلى درجة مُعينة (المادة 286) ومن الحقوق ما يكون مصدره الدستور, كحق عضو مجلس الشعب في التعبير عن آرائه في المجلس أو لجانه, فلا يُؤاخذ عما يسنده إلى الغير من سب أو قذفِ, عملًا بالمادة 98 من الدستور (دستور 1971).

ولا يقتصر مفهوم القانون على النحو المتقدم على ما يصدر مباشرة من السلطة التشريعية في الدولة, وإنما يجب أن تشمل كل قاعدة تنظيمية تقرر حقا بشرط تجتمع لها عناصر صحتها, فيجب أن تصدر ممن يملك إصدارها قانونًا, وأن يراعي فيها وجه الصالح العام, وأن تكون مطردة, تطبق على الكافة, ولا تتغير بالنسبة إلى الأفراد أو الحوادث؛ ولهذا يصح أن يكون مصدر الحق أمرًا جمهوريًا, أو قرارًا من مجلس الوزراء أو من أحد الوزراء؛ فالحق عندئذ وإن لم يكن مقررًا بالقانون مباشرة فهو مقدر بناء عليه.

غير أن المقصود بالقانون في خصوص المادة (60) من قانون العقوبات لا يتسع لغير القواعد القانونية, ومن ثم فلا يَشمل قواعد الأخلاق أو الدين, فالحقوق التي تُقررها قواعد السلوك أو أحكام الديانات لا تُخول ارتكاب الجرائم الجنائية, ولا نزاع في أن  كلمة ’’الشريعة‘‘ أو القانون الواردة بالمادة المشار إليها تَشمل الشريعة الإسلامية باعتبارها من قوانين الدولة, فبعض الحقوق التي تُقررها تُبرر مخالفة أحكام قانون العقوبات, ومن هذا القبيل حق الزوج في تأديب زوجته, وحق الولي في تأديب المشمول بولايته, وهو ما أكدته المادة السابقة من قانون العقوبات من أن أحكامه لا تُخل بأي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء إلا أنه لكي يكون لهذه الحقوق هذا الأثر يلزم أن تكون من الحقوق التي تُقررها الشريعة فيما تَسري فيه أحكامها وفقًا للتشريع المصري القائم, فهي التي تُعد قانونًا كأحكام الأحوال الشخصية, أما ما خرج عن ذلك من حقوق فلا أثر له في قانون العقوبات.

كما يُشترط أيضًا أن يبقى الحق قائمًا لم يحظره القانون بنص صريح؛ إذ لا يكون له وجود متى وُجد هذا الحظر, وبالتالي لا يكون له أثر في أحكام قانون العقوبات, ومن هذا القبيل منع العقوبات البدنية منعًا باتًا في معاهد التعليم الحكومية بمقتضى القوانين المنظمة لها, وتجريم الاعتداء على النفس بالقتل أو الضرب أو الجرح, وتجريم الإسقاط عمدًا, ومن ثم فإنه لا يجوز الاحتجاج قانونًا بإباحة الحقوق المقررة لكل شخص بمقتضى الشريعة, ولا يُجيز الشارع العمل بها مثل قتل المرتد أو قتل الرجل زوجته أو ابنته إذا زنت؛ لأن هذا الجزء من الشريعة غير معمول به منذ صدور قانون العقوبات الحالي وانقطاع صِلته بالشريعة بما تضمن من جرائم وعقوبات وضعية.

وحيث متى كان ما تقدم, وكان التشريع الجنائي المصري قد انتهج الخُطة التي درجت عليها الغالبية العُظمى من التشريعات الأجنبية من حصر أسباب الإباحة, مما يلزم عنه بالضرورة تقيد القاضي بالأسباب الواردة في القانون؛ فلا يملك سُلطة القضاء بإباحة الفعل المؤثم بناء على سبب آخر سِواها, ومن ثم فلا تملك هذه المحكمة في خصوص الدعوى المطروحة التزامًا منها بأحكام القانون أن تجاوز نطاق ولايتيها وتشترع سببًا للإباحة من الشريعة طالما أنه لم يفرغ في نص قانوني.

خامسًا: وبخصوص ما ذهب إليه الدفاع من أن اغتيال المجني عليه يُعد من قبيل الدفاع الشرعي عن المال, فمردود عليه بأن المقرر أن حق الدفاع الشرعي عن المال لا يُبيبح ـ كما هو مقتضي المادة 246/2 من قانون العقوبات ـ استعمال القوة إلا لرد كل فِعل يُعتبر جريمة من الجرائم المنصوص عليها, وعلى سبيل الحصر في الأبواب: الثاني والثامن والثالث عشر والرابع عشر من الكتاب الثاني, وكذا في المادتين: 378/6 و379/4 من قانون العقوبات, وهي جرائم الحريق عمدًا والسرقة والاغتصاب, والتخريب, النصب والإتلاف, والدخول في أرض مُهيأة للزرع, وإتلاف المنقولات, ورعي المواشي في أرض الغير؛ ومن ثم فكل فِعل لا يدخل في عداد هذه الجرائم لا يجوز دفعه بالقوة.

 

خلاصة رد المحكمة في ارتداد فرج فودة عن الإسلام من عدمه:

تستطرد المحكمة في حكمها فتقول: وحيث أن محصلة ما تقدم أن الدفع بإباحة جريمة قتل المجني عليه دكتور فرج فودة استنادًا إلى استعمال المتهم الأول لحق مقرر بمقتضى الشريعة، أو استعمالًا لحق الدفاع الشرعي عن الدين بمقولة أنه يعد دفاعًا عن المال؛ يضحى ـ بشقيه ـ غير موافق لصحيح القانون؛ بما يلزم عنه رفضه.

و تنوه المحكمة بأنها وإن كانت قد تعرضت للردة بالقدر اللازم للرد على الدفع بالإباحة, إلا أنها لا تملك ولاية الفصل في مسألة الادعاء بارتداد المجني عليه الكاتب الراحل دكتور فرج فودة عن الدين الإسلامي؛ إذ هي مقيدة بحدود الدعوى المطروحة عليها كما ورد في أمر الإحالة بجلاء على أن الردة  جريمة دينية خالصة، وهي من كبائر الإثم التي يعاقب عليه شرعًأ، وتستلزم بداهة شأنها في ذلك شأن أية جريمة. إجراء تحقيق بمعرفة السلطات المختصة مع المتهم، ثم محاكمة عادلة تكفل له فيها كافة ضمانات الدفاع من إتاحة الفرصة أمامه للاستتابة أخذًا بالراجح بين العلماء، فإذا ما ثبت الجرم بحقه وأصر على موقفه عنادًا واستكبارًا وأُدين بحكم قضائي نهائي، نفذت فيه السلطة تنفيذ العقوبة المقررة شرعًا، وهو ما يحدث في بعض البلاد العربية والإسلامية التي تُطبق أحكام الشريعة الإسلامية في التجريم والعقاب، ولا يجوز بحال أن يُترك أمر اتهام الناس بالكفر وإنفاذ العقوبة بينهم للأفراد. يكفر بعضهم بعضًا تبعًا لأهوائهم، أو تأثرًأ لفتاوي ضالة أو مُضلة  لأدعياء العلم بالدين والفقه؛ حتى لا تشيع الفوضى والفتن بين الناس وتضيع هيبة الدولة.

وإزاء خُلو التشريع المصري من نص يأثم جريمة الردة عن الإسلام وسدا للذرائع واستهدافًا للصالح العام، فإن المحكمة استشعارًا منها لمخاطر استمرار هذا الوضع وإيمانًا منها بأن الاعتصام بمبادئ الدين الإسلامي الحنيف والاحتكام إلى مصادر الشريعة الإسلامية الغراء والمجتمع بأسره من الشرور والمفاسد التي تعوق مسيرة النهضة والإصلاح التي تسعى الدولة جاهدة إلى تحقيقها؛ فإنها تناشد الحكومة وسلطة التشريع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة المسارعة إلى تنقية بعض التشريعات السارية مما يتعارض مع نصوصها مع أحكام الشريعة الإسلامية، واستصدار التشريعات المتفقة مع تلك الأحكام، والتي تدعو  حاجة المجتمع إلى استنباطها من معين الشريعة الذي لا ينضب بمرور الزمن؛ حتى يتحقق الاتساق والتجانس بين التشريعات الوضعية ومبادئ الشريعة الغراء، ويكون الإسلام بحق قولًا وعملًاـ الدين الرسمي للدولة، والمصدر الرئيسي للقوانين كما تنص على ذلك المادة الثانية من الدستور.

حقوق الإنسان والتوافق مع القوانين:

اغتيال المفكر فرج فودة نموذج مؤلم يعكس تصاعد التصادم الحساس بين التفكير الفردي والقيم الدينية، ويسلط الضوء على حاجة ملحة لوجود قوانين مدنية تحمي حقوق الأفراد وتؤكد على اهمية الحق في الحياة.

في هذا السياق، يبرز التناقض المعقد بين المفاهيم الدينية وحقوق الانسان. فالشريعة على الرغم من دورها المهم في توجيه السلوك البشري، قد تتعارض احياناَ مع الأسس الحديثة لحقوق الإنسان المُعترف بها دوليا. من هنا، تظهر أهمية وجود قوانين مدنية حديثة تكون واضحة وصارمة في حماية حقوق الأفراد وضمان عدم استغلال التصوُّرات الدينية لتبرير العنف أو القتل.

 

في الختام:

إن ضرورة رفض التداخلات الدينية في القوانين تنبع من أهمية حماية حقوق الإنسان والتأكيد على المساواة والعدالة في النظم القانونية. يتعين علينا أن نقدر تعقيد التوازن بين الدين والقانون، حيث تمثل القوانين المدنية المرجعية الرئيسية لتحديد حقوق وواجبات الأفراد وضمان الحماية من التمييز والتجاوزات. التداخلات الدينية في القوانين تمثل تحديًا يمكن أن يؤدي إلى تصاعد التوتر بين القيم والمبادئ الدينية وحقوق الإنسان المعترف بها دوليًا. لذلك، يجب أن تكون القوانين قائمة على أسس المساواة وحقوق الإنسان، وأن تضمن الحفاظ على حقوق الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. تظهر أهمية وجود قوانين مدنية حديثة تكون مستقلة عن التداخلات الدينية لضمان تطبيق العدالة وحماية الحقوق بشكل عادل ومنصف. تجسيدًا لهذا التوازن، يجب أن تُعبِّر القوانين الدستورية والمدنية عن قيم العدالة والحرية والكرامة البشرية والتي يجب أن تكون أولويات في أي نظام قانوني حديث. وأن يكون التشريع مبنيًا على أسس تعزز حقوق الإنسان وتحقق العدالة والمساواة، وهو ما يعكس قيم الدولة ومجتمعها بشكل مستقل وشامل.

 

التوصيات:

  1. إلغاء المادة (60) من قانون العقوبات: يُعَدُّ إلغاء المادة (60) من قانون العقوبات خطوة اساسية وضرورة ملحة نحو تحقيق التوافق بين القوانين المحلية والقيم الانسانية والمعايير الدولية لحقوق الانسان. نناشد السلطات المصرية بجدية النظر في هذا الأمر واتخاذ الإجراءات اللازمة لإلغاء هذه المادة التي تنتهك حقوق الإنسان والعدالة.
  2. التأثير السلبي لوجود المادة (60) : التأثير السلبي لاستمرار المادة (60) على حقوق الأفراد والمجتمع. يجب تسليط الضوء على الحالات التي يتم فيها استخدام تلك المادة وكيف يمكن أن تؤثر على المجتمع وسلامته.
  3. التزامات مصر الدولية: نشدد على أهمية احترام مصر بالتزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان، والتي تنص على ضرورة حماية حقوق الأفراد. يجب أن تكون التشريعات المحلية تواكب متطلبات ومعايير الحقوق الانسانية العالمية، وهذا يعكس التزامنا الجاد بتحقيق العدالة والمساواة.
  4. دور المهتمين بحقوق الإنسان: ندعو بإلحاح جميع المختصين والمهتمين بحقوق الإنسان في مصر إلى الانضمام إلى جهودنا للتوصل إلى إلغاء المادة (60). ندعو بشدة إلى توحيد الجهود للضغط نحو إصلاحات قانونية جذرية تحمي حقوق الإنسان.

 

نعبر عن إصرارنا على تعزيز الوعي بأهمية تحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان من خلال إصلاحات جذرية في القوانين.

المصادر:

  • كود قانون العقوبات المصري
  • كتاب التعليق على قانون العقوبات الجزء الأول للدكتور عبد الحميد الشواربي.
  • كتاب القتل باسم الوطن والدين للمستشار بهاء المُري.
  • اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة المؤرخة في 18 ديسمبر سنة 1979.
  • اتفاقية حقوق الطفل المؤرخة لسنة 1989.